إميل حبيبي، الأديب والسياسي الفلسطيني الراحل، ربما لم يعرف "التوافق" و" الرضا" و"الانسجام" في حياته. ومن أين تجيء اليه تلك الأشياء، وهو رجل من "عرب اسرائيل". أي من تلك المجموعة الفلسطينية التي بقيت داخل الخط الأخضر في اسرائيل، بعد قيامها، وسميت عرب 48.
انه بحكم الواقع إبن أقلية مغصوبة محكومة من أغلبية غاصبة حاكمة. وكان عليه أن يجد نفسه، وقسم غير قليل من عرب 48، على تعارض تام مع ابناء قومه من الفلسطينيين خارج الخط الأخضر، خاصة بعد قيام "الثورة الفلسطينية". فهو، مثلا، أحد قادة الحزب الشيوعي الاسرائيلي (راكاح)، وصار في وقت من الأوقات عضوا في الكنيست، بينما كان شعار الثورة الفلسطينية هو ابادة اسرائيل.
ويمكنك تصور مثل هذا التعارض الجذري بين عرب 48 وبين كل العرب الآخرين الذين لم يكن في وسعهم تصور أنواع النضال التي تخوضها تلك الأقلية، ولا تفهم منها عدا محاولتها الاندماج في الحياة السياسية الاسرائيلية، وهو ما يعد كفرا أو خيانة بنظر كل العرب. ومثل هذا التعارض الجذري، بل وأقسى منه، كان يوجد بين جزرته الشيوعية وبين محيطها الصهيوني.
كان شخصا حادا سليط اللسان. وكنتُ شاهدا ذات يوم على المدى المحرج، ولكن الذي في محله ايضا، على سلاطة لسانه. ولم يكن قلمه أقل حدة "عند الضرورة". ويبدو انه وجد مثل تلك "الضرورة" عندما طلب منه المرحوم سميح سمارة كتابة مقدمة لكتابه "تاريخ العمل الشيوعي في فلسطين". وكتب حبيبي مقدمة، خلص فيها الى ان بعض استنتاجات سمارة لا يمكن ان يخرج الا من رأس صهيوني متطرف أو بعثي عراقي!
تمتع حبيبي بعقلانية في الفكر، وحساسية مرهفة في التلقي والاستجابة. وظل كذلك الى آخر العمر. وقد انشق عن "راكاح"، واختلف معه اختلافا شديدا، وهو في تلك المرحلة الأخيرة من العمر. ولكم أن تتصوروا كيف يمكن أن تكون نوع العلاقة بين مفكر انساني واديب محتدم المزاج وبين محيطه الصهيوني والعربي الهائج.
ولقد باعدت الذاكرة بيني وبين أعماله الأدبية، مثل سداسية الأيام الستة، والمتشائل، ولكع بن لكع، فضلا عن العديد من مقالاته السياسية، وهي من طراز نادر. وكنت معجبا بأعماله، وقد عايشت بعضها نصا وعملا على خشبة المسرح، شأن "لكع" التي عرضت على احد مسارح دمشق مطلع الثمانينيات. ولجميعها طعم لا ينسى، شأن شخصيته. وما لا ينسى أيضا فيه، وما دعاني الى تذكره والتوقف عنده اليوم، هو "التعاطف" الذي كان "جذر" شجرة اميل حبيبي الوارفة.
كان الرجل مهيئا على الدوام ليكون ذئبا مفترسا مع "النخبة"، وهم اولئك الذين يؤثرون في الناس بأحد وجوه السلطان، من قوة وسيطرة ونفوذ وتحكم وغلبة وتفوق وقدرة على الأمر أو التوجيه، بسبب السياسة أو الدين أو المنصب أو العشيرة او الثقافة او المال. ولكنه كان أنعم من الحرير مع الضعفاء، مع الشعب "المكرود" الفقير الأعزل، ضحية "النخبة". وقد نسيت كل شيء من تفاصيل أدبه تقريبا. لكنني لم أستطع نسيان تلك اللازمة الساحرة التي تتكرر في مسرحية لكع بن لكع: "لا تلوموا الضحية، لا تلوموا الضحية": هنا، بهذا التعاطف، كان يتمركز قلب إميل حبيبي. هنا تلمس قدرته على الشعور بالضحية، ومشاركتها في معاناة ما تعانيه. وهنا تتجسد فيه "صحوة القلب"، هذه البَرَكة التي تجدب من دونها الأرض.