ليس دائما بالطبع، وليس، خصوصا، في القضايا المصيرية، لأن هذه الأخيرة تحتاج في العادة الى تجارب وآلام فوق العادة، وأحيانا الى مصادفات سعيدة فوق العادة. لكن في برنامج (الصوت) الذي قدمته MBC1، كان الجمهور بالفعل على حق.
في الحلقة الأخيرة من البرنامج اقتصر السباق على أربعة أصوات. وفي الحقيقة الى اثنين، كانا الأكثر تميزا بين الأربعة، مراد بريقي وفريد غنام. وكنت اتساءل أيهما سيختار جمهور المصوتين. والحق كان سيكون معهم اذا اختاروا أيا منهما. ولكن الأحق بالإختيار كان مراد. وصوَّت الجمهور له، فكان على حق. فمراد هو "الصوت". أما فريد، أو فراولة كما تدلعه خفيفة الظل شيرين، فقد كان المحبوب الذي لا يشبه أحدا.
ان الصوت الحق هو ما يشعرك بأنه فوق الموسيقى، يأخذك، وينفرد بك، وحده، مهما كانت أصوات الآلات الموسيقية من حوله جميلة ورائعة، فكل شيء من حوله يبدو ثانويا، وهو الأساسي، هو الجوهر. الجوهر الذي عندما يصل الذروة، يصير المثل الأعلى الذي تحاول الموسيقى بلوغه. ان الصوت هو الطبيعة. والموسيقى هي الفن. الصوت هو التحدي. والموسيقى هي الاستجابة.
مع مراد لا تستطيع حاسة أخرى غير حاسة السمع أن تعمل. الأذن وحدها تشتغل. والأذن وحدها العالم. وحين تنتهي منه تشعر بأنك عائد للتو من رحلة رائعة مع "الصوت". رحلة أعادت السحر الى العالم، والأمل الى الأرض، و"القلب" الى الحياة. فكم يعطي الصوت الى الناس، وكم تضيف الموسيقى الى البشر؟ بهما يتخفف الناس من قوانين الجاذبية الصارمة الحاكمة، ويفرحون، ويتحررون، ويطيرون. وهذه لحظات تملأ الناس، فيحسون جمالها، ويتأثرون، ولا يخطئون. ولكم يسعدك الشعور بأنك واحد من جمهور لا يخطىء. فالناس تحب الوحدة. تحب الموهبة التي تصنع الوحدة.
وكان مراد هذا النوع من الموهبة.
أما "فراولة" فلم يكن الصوت وحده. كان الصوت والحركة الرشيقة والرقصة الساحرة والفرادة اللافتة والدم اللاعب والحضور الشامل. الأذن والعين يشتغلان بنفس الدرجة، بنفس القوة. انه "كيان" مُحرِّك ومبهج ومؤنس الى اقصى حد. لدينا في العربية تعبير يقول:" إن تراب قعرها لمُنتَهَب"، يُضرب للشخص الذي تسر الناس برؤيته. وأصله ان العرب كانوا يفرحون اذا اكتشفوا وجود مياه عذبة في الأرض، فيحفرون بئرا فيها. فريد كذلك الكشف النادر في الصحراء. ان تراب قعره لمنتهب، لأن الله خصه بدم لا يجارى في خفته.
ترى من كان يلوم الجمهور على اختياره؟
مع ذلك، ورغم مواهب فريد العديدة التي تحرِّك الحديد، فقد فضّل الجمهور عليه مراد، الصوت الطربي الأصيل الطالع من عمارة الغناء العربي التقليدي. والملفت ان ثلاثة من المتسابقين الأربعة الذين بقوا، من أصل عشرات الأصوات، حتى الجولة الأخيرة كانوا طربيين، يسرى ومراد والصبي العراقي البديع قصي. أما فريد فكان الخلطة السحرية بين الأغنية والرقصة.
من قال ان "موسيقى الأقدام" هي المتحكمة في أذواق الأجيال العربية الشابة؟ أليست هذه الشريحة هي أغلبية المنتخِبين من بين المائة مليون الذين شاهدوا البرنامج؟ وهذا العدد الهائل من المشاهدين ألا يشير الى نوع من الصحة الثقافية السائدة؟ ألا يصح أن نسأل: لماذا نحن علمانيون في انتخابات الغناء وإسلاميون في انتخابات السياسة؟ هل يصح القول أن العرب اصحاء في الأغنية معتلون في السياسة؟ أم أننا منقسمون ولسنا مزدوجين؟ وأخيرا، وبالطبع ليس آخرا، هل يصح اعتبار الحس السليم مقدمة العقل السليم؟