مع بدء ماراثون المناقشات في مجلس النواب للتصويت على موازنة العام المقبل، تُوجت "بغداد" كثالث أقذر مدينة في العالم، ويبدو أنها ليست المفارقة الوحيدة ، فبلد الموازنات الانفجارية، عاصمته تملؤها النفايات، ما زالت مدنه خربة، ويعيش ربع أبنائه تحت خط الفقر، ويوم مطر واحد كشف عن حجم التردي الذي يعانيه قطاع الخدمات ، فقبل سنوات عدة، استبشر المواطنون خيرا حين سمعوا أن موازنة بلادهم لعام واحد تعادل موازنات أربع دول عربية مجتمعة، لكنهم أصبحوا اليوم لا يعيرون هذا الموضوع أهمية تذكر، سوى التساؤل عن مصير تلك الأموال الطائلة التي لم تغير من واقعهم المزري كثيرا، وعن الأشواط التي قطعتها مراحل إعادة بناء البنى التحتية للبلد الذي ما زالت تفتك به أزمات مستفحلة في قطاعي الكهرباء والسكن والخدمات الأخرى.
ومما تقدم تتضح حاجتنا للتعرف على الموازنة وفق رؤية مبسطة ، بعيدا عن آراء ذوي الاختصاص من الاقتصاديين، الذين سيكون حديثهم عبارة عن أرقام ونسب وتقديرات، وما الذي قدمته للمواطن، وأين تكمن نقاط القوة والضعف فيها، وهل هناك تحسن ملموس في طريقة وضعها؟
بادئ ذي بدء، فإن الموازنة العامة هي أداة حكومية لتحقيق إستراتيجية معينة وتحديد طريقة تنفيذها بوضع خطط وبرامج اقتصادية، لسقف زمني محدد، لتطوير البلاد والنهوض باقتصادها بمختلف قطاعاته، كالتجارة والصناعة والزراعة والاستثمار، وبمعنى آخر هي موازنة بين الأهداف والرؤى لرسم السياسة المالية للبلد.
وكما هو معروف فإن الإيرادات النفطية تشكل معظم مصادر تمويل الموازنة، وهي إيرادات غير ثابتة وتتأثر بعوامل عدة ،منها الوضع الأمني غير المستقر، وما قد ينجم عنه من عمليات تخريب أو تهريب، مما يغير من كمية الإنتاج، وهذا يجعل من الموازنة كأداة تخطيطية تفقد أهميتها ويصبح العمل فيها صعبا ويخضع إلى تغيرات يصعب التنبؤ بها في ظل الظروف الحالية العالمية والمحلية ، وفي المقابل فإن الإيرادات غير النفطية تنخفض فيها بشكل كبير، كواحد من مصادر تمويلها ، مثل الضرائب والكمارك وأجور الخدمات العامة. فيما تتعامل الكثير من الدول النفطية على أساس أن النفط ثروة في طريقها إلى النضوب، وتلجأ إلى تفعيل قطاعات أخرى ،على رأسها الخدمات أو السياحة ومنظومة الرسوم والضرائب.
وعلى الرغم من أن سعر برميل النفط يبلغ الآن حوالي 105 دولارات، إلا أن الكثير من الدول تضع موازناتها المالية، بأرقام أقل منه بكثير ، فالسعودية مثلا وضعت موازنتها باحتساب سعر برميل النفط 70 دولارا، والكويت 58 دولارا، أما العراق فقد وضع الموازنة باحتساب سعر برميل النفط، 90 دولارا، وهذا ما يجعله عرضة للتقلبات الخارجية، لاسيما أن العالم يشهد اليوم أزمات مالية متفاقمة، كالأزمة التي تشهدها منطقة اليورو، أو قد يحدث انخفاض مفاجئ في أسعار النفط ، كما حدث عام 2008، لم يتأثر به اقتصاد البلد كثيرا لوجود فائض نقدي كبير حينه.
ومع بدء كل سنة مالية جديدة تتجدد مسألة الحسابات الختامية التي لم تقدمها الحكومة، ولا يعد هذا خرقا دستوريا فقط، بل هو شرط أساسي من شروط الرقابة البرلمانية التي تتحقق من خلالها وظيفة البرلمان في مراقبة الأداء المالي للسلطات التنفيذية، بيد أن الحسابات الختامية لم تقدم منذ عام 2004 على الرغم من تأكيدات وزارة المالية إجراء الحسابات الختامية للسنوات الخمس التي أعقبت سقوط النظام، إلا أنها تأخرت في إرسالها إلى مجلس النواب بسبب تلكؤ بعض الوزارات في تقديم حساباتها الختامية . وتكمن أهمية الحسابات الختامية في أنها تبين أوجه الإنفاق وحجمه في الموازنة ومعرفة ما تحقق من أهدافها على ارض الواقع، إضافة إلى الوقوف على نقاط الضعف عند تطبيق بنودها لتلافيها في الأعوام القادمة. فضلا عن كشفها الكثير من ملفات الفساد وأوجه الهدر فيها.
أما نسب إنجاز الوزارات التي أعلنتها لجنة الخدمات في مجلس النواب، فقد تصدرتها وزارة الإعمار والإسكان بنسبة إنجاز بلغت 74 في المئة، فيما حققت باقي الوزارات نسب إنجاز متدنية، وطبقا لقانون الاستثمار فان لمجلس النواب حق سحب الثقة من الوزير أو رئيس الهيئة غير المرتبطة بوزارة في حال عدم تنفيذ ما نسبته 70% من التخصيصات الاستثمارية للوزارة أو الدائرة من الموازنة الاتحادية.
ويتم تحديد حصص المحافظات في الموازنة العامة، وفقا لنسبة السكان التقديرية ، وهذا يذكرنا بأهم أخطاء الحكومة حين تماهلت عن إجراء تعداد للسكان، فقانون التعداد شرع لكنه لم ينفذ، بسبب خلافات الكتل السياسية ومخاوف من تسييسه رغم أهميته في دقة تحديد عدد سكان كل محافظة ، وبالتالي ضمان حصة عادلة لها . علما أن آخر إحصاء تم إجراؤه في تسعينات القرن الماضي.
وبعد مرور ثماني سنوات، فان الطريقة التي يتبعها المشرع في تحديد أولويات الموازنة لم تشهد تطورا كبيرا، وكانت عبارة عن موازنة بنود، دون أن تتوضح آلية التنفيذ فيها، وهل تريد الحكومة أن تتجه إلى القطاع الخاص أو السياحي أو الصناعي؟
ويبدو أن موازنة العام القادم غير قادرة - كسابقاتها- على تحقيق تنمية حقيقية في البلد وإعادة الحياة للصناعة الوطنية ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار ضآلة تخصيصات قطاع الصناعة في الموازنة القادمة التي كانت بحدود المليار دولار، بيد أن تخصيص مبلغ 14 مليار دولار لتطوير منظومة الأمن والدفاع، يعكس توجهاً نحو عسكرة المجتمع، فتعزيز أمن العراق لا يتحقق بتلك الطريقة، ومن حق الحكومة الاهتمام بأمن البلاد، ولكن ليس على حساب قطاعات أخرى ،على رأسها الصناعة والخدمات.
وتبقى الموازنة من وجهة نظر المواطن مجرد أرقام صماء لا قيمة لها، إذا لم تتحقق غايتها التنموية التي يجب أن تنعكس إيجابا على الوطن والمواطن الذي تتركز أولوياته في تحسين مستوى معيشته، بما يضمن له حياة حرة وكريمة.