بصرف النظر عن النتائج التي أسفر عنها ما سُمّي يوم السبت الماضي في مصر بأنه استفتاء على موافقة أو رفض الشعب للوثيقة المشبوهة التي أُطلق عليها صفة الدستور ، فإن حسابات ما بعد هذه المهزلة ستفرض واقعا جديدا لن يكون على هوى جماعة الإخوان و مؤسستها الرئاسية لعدة أسباب تفرضها طبائع الواقع السياسي الحالي.
حدث ما حدث.. وتمسك د.محمد مرسي بقرار جماعته و مكتب إرشادها بالإصرار على إجراء هذا الاستفتاء رغم مناشدة كل القوى السياسية، بلا استثناء، وحثه على عدم إلقاء المزيد من الحطب على نار مشتعلة .. و نُذُر تهدد بما هو أخطر بعد أن ظهرت للعالم عيوب وأخطاء هذا الدستور و مخالفته أبسط مبادئ العقد القانوني والاجتماعي الذي يتوافق عليه الشعب.. لكن في "ماراثون" الهيمنة على السلطة ، ضربت جماعة الإخوان المسلمين عرض الحائط بكل الاعتبارات في إطار أي مناخ يُطرح على الشعب دستور ينبغي التوافق على بنوده بينما الشارع المصري يكاد يصل في حدة وعنف انقسامه إلى هاوية حرب أهلية أو اقتتال"ميليشيات" !! وهل تكفي وثيقة دستور "دُبّرت بليل" من فئة لا تتجاوز نسبتها ربع إجمالي سكان مصر قاعدة لإقامة أُسس دولة!! فالانطباع الخاطئ عن كون التيارات الإسلامية أغلبية تكشفه لغة الأرقام .. مرسي الذي جاء رئيسا بنسبة 51% من أصوات المصريين يعلم جيدا أن نصف هذه النسبة انتخبته لأنها فقط ترفض المرشح الآخر أحمد شفيق.. إذاً مصر أمام مناخ سياسي منقسم نتيجة فشل الإخوان في بناء أي توافق داخل المجتمع بعد تفرغ أعضائها للتكالب على السلطة و فرض أنفسهم على مناصب الدولة دون رصيد يُذكر من الثقة والكفاءة.. حتى تحولت بعد ستة أشهر من الحكم إلى جماعة استنفدت صلاحيتها ..لم تجد حلا سوى القتال من أجل البقاء.. ولأن العنف والاغتيالات هما المرادف الوحيد للتخبط عند الجماعة فقد جاء رد فعلها على مأزق التدني السريع والملحوظ لشعبيتها والرفض الشعبي العام لها ، في مقابل تنامي المعارضة، وإصدار الأوامر إلى الميليشيا المسلحة بالنزول إلى الشارع والاصطدام بالمعارضة بل والتنكيل بها في مختلف الأماكن.. من الجامع حتى الجامعة.
تم استباق هذا الاستفتاء "العجيب" بمبادرة من وزارة الدفاع بهدف جمع طرفي قوى اللعبة السياسية .. إلاّ أن الدعوة الصادرة من المؤسسة العسكرية لم يكتب لها النجاح لسببين : الأول ضغوط تمت من جماعة الإخوان المسلمين تخوفا من تدخل الجيش في العملية السياسية مرة أخرى، وثانياً الارتباك الذي طال هذه المؤسسة التي يتطلب كفاءة دورها الأمني وجود شرعية سياسية و أخلاقية بينما مصر حاليا تسقط عنها كل مقومات الدولة و مؤسساتها أمام سيادة حُكم الميليشيات الإسلامية.
عجائب هذا الاستفتاء لا تنتهي..بعد إعلان 90% من عناصر القضاء المصري رفضهم الإشراف على الاستفتاء أنيطت المهمة بمجموعات من شباب الإخوان بمساعدة عدد قليل من القضاة من المتعاطفين مع الجماعة. وقد تولت هذه المجموعات عملية المراقبة فعليا داخل اللجان الانتخابية!! مما أفقد عملية الاستفتاء مقومات الشفافية والحرية في الاختيار بين طرفين يحاول كل منهما استمالة الرأي العام نحو رؤيته السياسية.
والمُتابع لكل مراحل العملية السياسية التي تمت خلال العامين الماضيين لا بد أن يشهد ببراعة وقدرة التيار الإسلامي في التزوير واستجداء أصوات الطبقات البسيطة بكل المغريات واستخدام منابر المساجد ..إلى آخر الوسائل غير المشروعة لمجرد ترويج صورة زائفة أمام الغرب- تحديداً أميركا- إن الصورة المشوهة واقعياً هي ممارسة ديمقراطية.. ومصالح أميركا "اختارت" تصديق هذه المغالطات.
إذاً وهم الاستقرار بعد الاستفتاء هو حلم سيتحول إلى"كابوس" يرتد على جماعة الإخوان ... نزول تظاهرات حاشدة من المعارضين لحكم الإخوان إلى الشارع حدث بعد تراكمات من سوء فهم وأخطاء ارتكبتها الجماعة في قراءة طبيعة هذا الشعب بعد الثورة.. الطمع في السلطة أعماهم عن حقيقة التغيير الذي طرأ على الشخصية المصرية التي ترفض العودة إلى حالة الخنوع و الاستسلام لما يُفرض عليها.
منذ أول استفتاء في آذار 2011 على الخطوات السياسية القادمة حوّلت جماعة الإخوان المسلمين طبيعة الخلاف بينها و بين القوى المدنية إلى صراع ديني.. بينما جذور المعركة ليست عقائدية.. إنما أصلها الحرية والسعي لتحقيق مستقبل أفضل ، لذا من المستبعد أن يعود الشارع المصري إلى حالة "الرضا بالمقسوم" ثانية بعد أن اكتسب "حساسية" شديدة ضد الدكتاتورية و الاستسلام لفرعون "ملتحي" هذه المرة.. و قد التقيت في ميدان التحرير بأعداد كبيرة ممن تصوّروا أن اختيار مرسي يحقق أحلامهم.. وصدموا بأنه يحقق أحلام جماعته ولو على حساب دماء هؤلاء الشباب ، وهي حقيقة ستفرض نفسها على المشهد المصري بعد الاستفتاء.
يبقى العنصر الأخير الذي يسقّط نزاهة هذا الاستفتاء قرار إقامته على مرحلتين يفصل بينهما أسبوع ،ما يفتح الباب أمام تأثر الرأي العام أو توجيهه إثر إعلان نتائج المرحلة الأولى، و يكون أصدق وصف لهذا المشهد الساذج" الإخوان يستفتون على الإخوان"!!
* كاتبة عراقية مقيمة في القاهرة