تفاصيل مطلع الاسبوع تنطوي على اثارة بالغة، فقد حصلنا على تقرير ديوان الرقابة المالية الكامل بوصفه اعترافا رفيعا من دولة العراق، بأنها "لادولة" حتى هذه اللحظة. والمثير ان صحفيين يابانيين وامريكان يحاولون على تويتر تتبع الروابط من صفحتي سعيا لفهم "المسألة العراقية".
اما الشباب والشابات في فيسبوك والذين انحني لحجم شجاعتهم وجنونهم احيانا، والذين يجعلونني اجدد ايماني بهذه الارض كلما خاب الامل، فإنهم يمدونني بمعلومات مهمة بين الحين والاخر، ويكشفون كيف يختلط الحابل بالنابل لحظة غرق بغداد بالمطر. وحين يأخذك اصدقاء اخرون في جولة لرؤية قبر الحلاج، تشعر ان بغداد لا تزال تصلبه كل يوم بلا رحمة.
تقرير الديوان الذي بدأنا نشره اعتبارا من الاحد، يبدأ بالجواب على اسئلتكم جميعا بشأن اسرار الفشل. ولن افسد عليكم متعة مطالعته حلقة حلقة، ولكن يكفي انه يثبت لنا ان وزارة الكهرباء تنفق الملايين على معدات بمواصفات واطئة، تتبعها وزارة النفط. فما بالك بغيرهما وهما الاكثر ثراء؟
وكل ما اتمناه على صحافتنا ان تتبع دقائق هذا التقرير فقرة فقرة وتقرع بها رؤوس نوابنا، لان ثلة الشجعان القليلة في البرلمان لم تعد تكفي لملاحقة كل المصائب ونحتاج الى ايقاظ العشرات النائمين تحت القبة، ليلاحقوا معنا مافيا "اللادولة" داخل دولتنا. وهل هناك دولة بعد اعتراف القائد العام للقوات صباح الاحد، بأن الاوامر لا تنفذ، وانه قلق من جيش لا يؤمن بحكمة قراراته العسكرية، وقد يتمرد ولا ينفذ، او انه تمرد فعلا كما يوحي غضب سيادته وانفعاله.
ان كل ما حصلنا عليه بعد ١٠ اعوام من الشهداء والاموال التي تعطى لكبار المسؤولين وتخصم من حقوق الفقراء، هو ان مسؤولينا فشلوا في زيادة مساحات القانون، وتقليص مساحات اللاقانون. وهم اليوم امام سلسلة فضائح لا احد يمتلك جوابا عليها.
ولاننا "لا دولة" فقد حكى لي مهندس رفيع قبل قليل ان معظم المناطق السكنية في العراق بلا مجارٍ. وليس هذا بجديد، لكن "اللادولة" قامت بمد المجاري المخصصة للامطار قبل مد المجاري المخصصة لتصريف مياه البيوت. وهنا قام الاهالي المساكين بربط مجاري بيوتهم بمجاري الامطار تخلصا من الروائح النتنة، التي ظلوا يستنشقونها هم واولادهم الف سنة في دولة العز والرفاهية والغنى. وحين جاءت آلهة المطر لم يكن هناك انبوب مناسب لفعل شيء، فغرقنا شر غرقة.
وحين تكبر كروش المسؤولين دون ان ينجحوا في مد انبوب مفيد، او تعبيد رصيف في قلب بغداد، يتحول الاهالي الى يائسين على استعداد لتخريب كل شيء. والنتيجة نقص هائل في منسوب الرحمة والتكافل والتعاون، وهو امر يغضب ارواح الصالحين الذين يعتقد اهلنا انها بركة تبعد الشر عن هذه البلاد، وتقلص حجم البلايا ونوع المنايا.
صحفيو اليابان وامريكا يريدون ترجمة وثيقة "اللادولة" التي كتبها عبد الباسط تركي. يقول لي احدهم: منذ قرون ونحن نحاول ان نفهم مشكلتكم، وينتابنا شعور بأن قراءة كتب المتصوفة وما انتجه تراثكم من فلسفات وفقه وادب لن يأتينا بالجواب.. ولعل تدقيقات تركي هي التي ستوضح اللغز.
قلت لهم ان عليكم مقابلة عمتي لتفسر لكم لغز انحطاطنا. فقد اعتاد اهل البصرة خلال اخر ألفي عام ان يكبسوا تمورهم دون تجشم عناء غسل "الجواخين" وهي مخازن يلتصق بها دبق التمور وعسلها. ذلك لان السماء تبعث لهم نهاية الخريف مطرا شديدا كل سنة ينظفها من الدبق. والاهالي يسمون هذه المطرة "غسالة الجواخين". سألت عمتي الخبيرة بفنون رعاية احلى بساتين الدنيا، لماذا لم تعد "غسالة الجواخين" تأتي هذه الايام. فأجابت: صار شبابنا كسالى، يبحثون عن وظائف في الدولة (او اللادولة) ولا يعتنون بالنخيل. اخر مرة جاءت الغسالة لتنظف المكابس فلم تجد دبقا ولا اثرا لمحصول في البصرة، فشعرت بسخط وغادرت غاضبة باكية. لقد افسدنا تقليدها الذي تمسكت به ألفي سنة. طارت البركة ببساطة ودخلنا سديم ساتورن اله الحرب الاسود.
ان قبر الحلاج فارغ فقد صلبه سلطان ذلك الزمان واحرقه، لكن المتصوفة اقاموا له ضريحا رمزيا في غرفة كان يستخدمها للتدبر وقراءة الاوراد ونظم الشعر الهائل. وحين زرناها الجمعة فوجئنا بأن الزقاق محاط بالازبال. انه شارع يفصل بين مستشفى حكومي وضريح للحلاج، ومليء بالقمامة والرائحة النتنة. ارواح الاولياء التي تراهن عمتي على انها تبارك الارض، ستستنشق حين تأتي لتفقد الحلاج، انتن الروائح. وستسأل: هل هذا الاهمال سببه قطر والسعودية و"مؤامرات" مسعود بارزاني الذي نجح مع شعبه بوضع اساس مدن نظيفة وعصرية تغيظنا كلما زرناها؟ ان بغداد تصلب حلاجها كل يوم، بنقص الرحمة واستشراء الاهمال واختلاط الحابل بالنابل. انها تطرد بركات "غسالة الجواخين" يا عمة.
اعتراف في حضرة أبي منصور
[post-views]
نشر في: 16 ديسمبر, 2012: 08:00 م