تعيش مصر حالة تحول كمرحلة خاصة جدا في تطور المجتمع حيث يواجه هذا التطور صعوبات بلا حصر داخلية وخارجية، والداخلية في حالتنا هي الأساس ،إذ أن السلطة الجديدة وهي تعيد إنتاج النظام الاجتماعي الاقتصادي لعهد «مبارك» مدعية أنها تقيم نظاما جديدا اختارت أن تجري التغيير في ميدان الثقافة والسياسة مع الإبقاء على الأساس المادي القديم أي علاقات الإنتاج الرأسمالية إضافة للإعلاء من شأن الطابع التجاري والنشاط الطفيلي وتمتين علاقات التبعية مع الولايات المتحدة الأمريكية مع إزاحة أهداف ثورة 25 يناير إلى الخلف، أو التعامل معها متحفياً باعتبارها أيقونات لحركة انقضى زمانها وبدأ عصر الاستقرار طبقا لأدبيات الحكام.
ولم تخطئ قوى المعارضة الديمقراطية حين خاضت المعركة مع حكم الإسلام السياسي على أرضية الثقافة والسياسة وأزاحت - موقتاً - الوضع الاقتصادي الاجتماعي، لأن المعركة على أرض السياسة والثقافة كانت وماتزال من الخطورة بمكان لأن مشروع الدولة الحديثة التي تقوم على المؤسسات والفصل بين السلطات أصبح مهددا بصورة جدية، فالإسلام السياسي في حين يوجه الضربات المنظمة لمؤسسة القضاء ويلحقها بسلطة الحكومة أو بالأحرى يخضعها لهذه السلطة فإنما يتطلع إلى ما يسميه المحاكم العرفية التي تفصل في القضايا وفقا لشرع الله كما يرونه هم بديلا عن القانون وتقيم الحدود فتقطع الأيدي والأرجل والرقاب وترجم الزانية وهلم جرا، وبدلا من التعليم الإلزامي العام تقيم الكتاتيب ومدارس حفظ القرآن، أو تحول هذه الشبكة الهائلة من المدارس العامة إلى القطاع الخاص حيث يمتلك الإسلاميون مدارسهم ويتطلعون - بنهم - إلى الاستيلاء على المدارس الحكومية حين خصخصة التعليم، وهذه الخصخصة هي مشروع مؤجل موقتاً من مشروعات الإسلام السياسي والذي هو أيضا موضوع لصراع مؤجل مع القوى الديمقراطية.
كذلك يدور الصراع الضاري الآن بين الإعلاميين العاملين في إعلام الدولة وهم يدافعون عن حرية هذا الإعلام وموضوعي باعتباره مملوكا للشعب وليس للحكومة وبين الوزير الإخواني الذي يسعى إلى تحويل هذا الإعلام إلى بوق للإسلام السياسي وأفكاره ورؤاه الأحادية ضيقة الأفق التي تختزل العالم في ثنائية الإيمان - الكفر لتغطي على حقيقة الصراع الطبقي المحتدم في البلاد.
يطبق الإسلام السياسي الحاكم هذه الإستراتيجية لهدم الدولة الحديثة في كل المؤسسات والمجالات مع الإبقاء بل والتشبث بالطابع الرأسمالي الطفيلي التابع للاقتصاد.
ولكن جماهير ثورة 25 يناير بادرت هي نفسها لنقل الصراع تدريجيا إلى أرض العلاقات الاقتصادية - الاجتماعية حين رفعت شعار لا للغلاء لا للاستفتاء وخرجت متظاهرات ممسكات بالحلل الفارغة وبدأن الدق عليها وقد تعلمن من تجارب بلدان أمريكا اللاتينية أثناء نضالها لإسقاط الديكتاتوريات.
وهكذا بدأت مؤخرا عملية كشف الغطاء عن حقيقة السياسات الاقتصادية - الاجتماعية لحكم الإسلام السياسي، وإذا ما انكشف هذا الغطاء كلية سوف يتبين لنا الحجم الواقعي لقوى الإسلام السياسي خاصة إذا ما دخل العمال والفلاحون بكل قوتهم إلى الميدان، ولابد من الانتباه هنا إلى أن ضعف أحد المعسكرين لا يعني تلقائيا القوة والتلاحم لدى المعسكر الآخر، إذ أن هناك صراعات خفية ومعلنة بين قوى الإسلام السياسي وفي داخل حلفها، كما أن القوى الاحتياطية المباشرة وغير المباشرة لمعسكر ثورة 25 يناير التي لم ترفع شعارا دينيا واحدا لاتزال كامنة وهي بدورها مشتتة وتدور في داخلها صراعات صغيرة وشخصية ولم يجر استنهاضها كلها بعد وسوف تجري عملية استنهاضها في القريب العاجل لا فحسب عبر وعيها بقدرتها التي تفتح وتقدم ووضوح رؤيتها الذي أنجزته الثورة وعبر قدرة قادتها على تنظيمها وإنما أيضا عبر المعطيات الواقعية ذاتها التي يتدهور في ظلها مستوى معيشتها، وينغلق المستقبل أمامها ويهددها الجوع الفعلي حتى أن القول بثورة جياع قادمة ليس من قبيل المبالغة ،وهذه جميعا عوامل سياسية وثقافية متداخلة تنعكس يوميا على الواقع الاقتصادي - الاجتماعي وتؤجج الصراع الطبقي، وهي جميعا عوامل فاعلة وتغييرية متحركة لا يخضع فيها الأمر الممكن إلى الأمر الواقع لأن قوة الغضب الجماهيري واتساع قاعدة العمال والفلاحين والفئات الوسطى تدق بقوة على أبواب ممكنات شتى وتطيح بالمعنى المستقر في الأفكار البليدة الذي يقول إن السياسة هي فن الممكن وحسب يقول لهم الواقع الفعلي إن الثورة تفتح آفاق الممكنات وهي في حالة حركة دائبة.
ولا ننسى في هذا الصدد أن الغطاء الذي انكشف قد بين إلى أي حد لم تعد قطاعات واسعة من الجماهير البسيطة تنخدع بالخطاب الديني الأصولي بل وترى أن تدينها - أي تدين الجماهير - هي الأصح والأقوى، وهذه إضافة أخرى لرصيد الثورة المستمرة.