لي صاحب عهدت به الصبر على ما هو اثقل من الحديد وأمر من الحنظل. مدرسة في قدرته على تحمل ما يواجهه من مصاعب. كان كذلك مذ كنا في العراق، وبقي كما هو في ايام المنافي. فاجأني قبل عام تقريبا حين شكا لي نفاد صبره! خير؟ لم اعد اتحمل جاري بعد اليوم وكفاني ان تحملته اربع سنوات. قلت لك من زمن بعيد أن ارحل عن دارك واترك هذا الجار الذي اعرفه اكثر منك. قال لي انه صبر عليه بأمل ان الايام أن ستغير سلوكه. جار صاحبي عراقي ايضا، وصاحبي يرى انك لو حصلت على جار من "طينتك" فتلك نعمة في الغربة تستحق الصبر والتحمل. المهم في الامر ان صاحبي، لأول مرة، يقتنع بانه للصبر حدود.
طلب مني ان أساعده في البحث عن سكن جديد. وفي صباح اليوم التالي التقينا عند مكتب للعقار قريب من سكني، اعرف مديره. ومن بين ثلاثة بيوت شاهدناها وقع اختياره على واحد، لكنه كان خائفا ان يكون جاره الجديد مثل السابق. ترجمت مخاوف صاحبي لمدير المكتب فابتسم وقال لي: محلولة!
شرح لنا المدير ان هناك قانونا صدر قبل سنوات في بريطانيا يلزم من يبيع داره ان يقدم كشفا للمشتري عن سلوك جاره والمشاكل التي دارت بينهما. واخفاء اي معلومة تخص المشكلات مع الجار تعود بعواقب وخيمة على من أخفاها. صاح صاحبي: اوادم. نعم هم كذلك يا شيخ الصبر الذي نفد أخيرا. قرر صاحبي ان يشتري الدار وهو مطمئن لأنه سيعرف الجار قبل الدار، وتمت عملية الشراء على خير.
قبل اسبوعين التقيته فوجدته قد عاد كما كان. مرتاح البال لا يشكو ولا يئن. سألته عن بيته وكيف حاله مع جاره الجديد فاخبرني أن داره وجاره بخير. حتى صحته بدت لي أفضل، فسألته ان كان قطع التدخين او صار يمارس الرياضة، فاخبرني ان لا هذا ولا ذاك بل انها نتيجة التخلص من جار السوء. وكلام من هنا وآخر من هناك انصب حديثنا عن الجار و"الجوراين" بالعراق في أيام الخير، وكيف يهتم العراقيون اهتماما خاصا بالجار فيقولون: الجار قبل الدار، والجار لو جار، والجيران أحسن من الأهل. و"الجيرة" قيمة اجتماعية تحتل مكانة متقدمة في سلم القيم الاجتماعية عند العراقيين. ومن محبتهم للجار واهتمامهم به ورد اسمه كثيرا في اغاني العراقيين:
"جيرانكم يهل الدار والجار حقه اعله الجار" و"طالعه من بيت ابوها رايحه البيت الجيران" و "ليش ليش يا جارة متردين الزيارة؟" وسعدي الحلي يشكو لامه: جيران نزلوا بالطرف يا يمه احبهم. وناصر حكيم يهدد: لبجي وشيل الجار من ولم كلبي.
خلصنا الى ان تعيس الحظ من يحظى بجار أحمق، والمحظوظ عكس ذلك تماما. تحسر صاحبي وقال لي لو احكي لك ما فعله بي جاري السابق لعرفت كم أني سيئ الحظ. لا تحزن يا صديقي لانها مرحلة وانتهت لكن ما بالك بمن يحيطه اكثر من جار سيئ ولا يستطيع الرحيل؟ وليش ما يشيل؟ ما ممكن. يا اخي يسوي مثل ما سويت؟ قتلك ما ممكن. ومنو هذا؟
العراق يا صاحبي الذي ابتلاه القدر بجيران ما ابتلي بمثلهم وطن قبله ولا بعده.
قال شاعر:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي
ولم يعلموا جارا هناك ينغّص
فقـلت لهـم: كفـوا الملام فانما
بجيرانها تغلو الديار وترخص
جارك يا وطن
[post-views]
نشر في: 17 ديسمبر, 2012: 08:00 م