ما الفرق بين اللغة والعقل؟ لأول وهلة قد يبدو أن الفرق كبير، لكن مع قليل من التمعن نجد بأن اللغة هي العقل، وأننا لا نستطيع أن نستخدم عقولنا بالتفكير خارج إطار اللغة. بل إن ذوي الاختصاص اتفقوا على أننا لا نستطيع أن نفكر دون أن نستخدم بنى وآليات ومسلمات تشكل اللغة اساسها وهيكلها وكامل مضمونها!
عندما أفكر بهذا الموضوع اجدني دائماً ميالاً لتشبيه المخ بالكومبيوتر، واللغة بالبرنامج الذي نُزَوِّد به الكومبيوتر، وكما أن هنالك على الدوام برنامجاً واحداً تُزَوَّدُ به جميع أجهزة الحاسوب، وهو لغة التشغيل؛ (الوندوز) مثلاً. فهناك دائماً لغة عامة يستخدمها أفراد كل ثقافة فيما بينهم؛ كالعربية، والصينية، والتركية، والفارسية.. الخ. لكن، وكما يختلف كل جهاز حاسوب عن غيره بالبرامج الأخرى التي تناسب مستخدمه، يوجد في عقل كل منّا، مجموعة من المفاهيم والمفردات اللغوية التي تناسب اهتمامه. فمجموعة المفاهيم التي يستخدمها الانثروبولوجي وتجعل منه انثروبولوجيا، تختلف عن مجموعة المفاهيم التي يستخدمها النجار وتجعل منه نجاراً. بل في كثير من الأحيان يحتاج كل من هذين الاختصاصيين إلى استخدام قاموس لفهم المصطلحات التي يستخدمها الآخر.
لهذا السبب نجد بأن الحاسوب الذي يستخدمه مصمم السيارات يختلف بشكل كبير عن ذلك الذي يستخدمه الشاعر، فداخل لغة التشغيل المشتركة بين الجهازين، هناك برامج كثيرة تجعلهما مختلفين. ويشعر كل من هذين المستخدمين بالضجر عندما يريد استخدام الحاسوب الخاص بالآخر. البرامج إذاً هي التي تجعل حاسوب مصمم السيارات على ما هو عليه، ولا يستطيع أن يكون جهاز شاعر، إذا لم نقم بتهيئته لهذه المهمة.. ربما لهذا السبب لا نسمع كثيراً أن شاعراً تحول إلى مصمم سيارات، أو أن فلكياً مختصاً، ترك علم الفلك وراح يبدع بالطب النفسي. وكما أننا نضحك عندما نسمع نكتة تقول بأن جهاز حاسوب أحد الفنانين التشكيليين يعتقد بأنه اختار أن يكون على ما هو عليه، يجب أن نضحك عندما نسمع بأن التشكيلي يعتقد بأنه اختار أن يكون تشكيلياً، وأنه يستطيع في أي لحظة أن يبدل اختصاصه ويبدع بمجال عمل بعيد جداً عن مجال عمله.
لهذا السبب تجدونني أصدقائي، كلما حاولت أن أعبر عن فكرة ما، اسير بها اتجاه تأكيد موضوع الحتمية، إذ الفكرة الناظمة لكثير من أفكاري هي الحتمية، ربما أنا مبرمج عليها. وعندما أستغرب هذا السلوك، أتذكر ما نسميه "القدر" الذي هو في الحقيقة تسمية مختصرة وميسرة لمجموعة هائلة من الظروف والملابسات والمشاعر والعواطف والأفكار والمعتقدات والتجارب التي تراكمت عبر السنين وتحولت إلى برامج تجعل كل منّا مختلفاً عن غيره. إذن في النهاية عقولنا أشبه بأجهزة الحاسوب، لكن مع ذلك، ومع أننا نختار لحواسيبنا "الحقيقية" أحدث البرامج، يأتي أكثرنا ليملأ عقله بمسلمات "برامجية" تجاوزها الزمن وأصبحت غير صالحة للاستخدام.