أريد أن تكون هذه الزاوية "خفيفة" ليوم الخميس، شيء عن كهرباء بغداد ١٩٣٣ وشيء عن شعر فارسي يتغنى بمدينة المحمرة الإيرانية، وأرجنتيني عظيم يتحدث عن بوينس ايرس و"بيوت الجنوب".
اقرأ منذ أيام مذكرات محمد حديد، والد زها حديد المعمارية التي نتفاخر بها. وحديد وزير سابق في العهدين الملكي والجمهوري، ناضل في جماعة الاهالي لاجراء الاصلاح السياسي في العراق ثم استبد به اليأس فأخذ عياله الى لندن ومنح العالم ابنته زها التي ادخلت البهجة والانبهار في قلوب متذوقي الهندسة المعمارية شرقا وغربا.
يتحدث في مذكراته عن اول اضراب منظم في العراق قام به العمال ضد شركة بريطانية بلجيكية كانت تستثمر في كهرباء بغداد وتحتكر تجهيزها بالطاقة. الاهالي غاضبون ويريدون خفض التسعيرة مقدار فلسين. الاضرابات اشتغلت ومقالات الصحف احتدت وصار قادة الاضراب وانصاره لا يستخدمون الكهرباء بل الفانوس والالات البدائية ونجحوا في مقاطعة كهرباء الشركة والتسبب بخسارتها حتى رضخت لمطالبهم، ولم يقنع ذلك اهل بغداد فطلبوا خفضا جديدا في الاسعار، بعدها قرر البلجيك والانكليز التخلي عن مشروعهم وسلموا المحطات لنوري السعيد وعادوا لبلادهم، ومن يومها صارت الكهرباء حكومية. مبروك.
وبعد ذلك بسبعين عاما دخلنا في حرب وحرب مع احفاد تلك الشركة فقاموا بقصفنا مرارا وخربت كهرباء الحكومة، ورجعنا تحت رحمة "ابو المولدة". ومع احترامي لحماس السيد محمد حديد فأنا متأكد ان المجموعة البريطانية البلجيكية كانت احسن من "ابو المولدة" ماليا وتقنيا.
لكن المهم ان اهل بغداد ذاك الزمان كانت لديهم ارادة للاحتجاج، وكانوا غير مقتنعين حتى بخدمات من مستوى بلجيكي وانكليزي (يا لبطر تلك الايام). كما ان اساليب احتجاجهم كانت متحضرة في الثلاثينات، فلجأوا الى شكل رمزي مبتكر واطفأوا الكهرباء واستخدموا الفانوس وأرعبوا الانكليز ونوري السعيد. اما اليوم فأهل بغداد مستسلمون لابو المولدة، منذ ١٠ اعوام. ولم يعمدوا لاحتجاج متحضر او متخلف. ما الذي تغير يا ترى؟ اين بطر ذلك الزمان؟ وهل هناك خصم شريف اليوم كالشركة البلجيكية او نخبة فيصل الاول؟
ان الامر لا يستحق العويل على اي حال، لكن اغنية فارسية جعلتني ابكي مرارا خلال الاسابيع الاخيرة. وبسبب هذه القصيدة، احسد جارتي المحمرة مدينة بني كعب المعروفة في ايران باسم "خورامشاهر". والتي يقول بعض "العباهلة" انها تعني "مدينة اللذة" نسبة الى الطريقة الخورمية وهي فصيل مانوي باطني كان يؤمن بمذهب اللذة في زمن الهرطقات العباسي وانتفاضاته الفكرية، ويوم كانت المنطقة المحيطة بشط العرب، عاصمة لكل تمرد فلسفي وعقلي. قصيدة ابن المحمرة الفارسي محسن تشاوشي قام نفسه بتلحينها وغنائها بصوت اجش ساحر وموسيقى تزاوج ايقاع البحر "بندري" او "الخشابة" بنكهة الجاز الامريكي.. هي شعر يبكي مدينة دمرتها الحروب، وفيها حوار غاضب مع الله ومع بحارة بني كعب الذين حملوا رايات حمراء "محمرة" في مدينة "الخورام" واللذة، فطعامهم سمك بالسكر والبهار، وايقاعهم "بحري".
انني احسد المحمرة واشعر بالحزن لان "أمها" البصرة لم تحصل بعد على اغنية عظيمة كهذه، رغم ان حظ بصرتنا وعراقنا في الشعر واللحن والفن، كبير عبر التاريخ.
تقول الاغنية (واسمها نخله هاي بي سر، اي نخلات بلا رأس، تجدونها على يوتيوب):
"لا يزال أهل الميناء، يغنون لجروح لا تشفى، تقيم على جذع نخلة بلا رأس. إنني بعيد عن مدينتي، وصلت آخر المحطات، ورغم ان المدينة ركام وخراب، الا انني اعشق "الشط".
إنني يا الله.. اشارك اهل الميناء أوجاعهم، لا تجعلني أعود بأياد فارغة.. الى المحمرة.
لا تزال مدينتي ساحرة، لكنها حزينة مثلي. لا تزال رائحة الدم تفوح منها، لا تزال تعاني الهجر والنبذ. لا تزال تفوح من جدرانها رائحة الخبل والجنة!".
ينهي ابن المحمرة تشاوشي، اغنيته هنا، ويجعلني اتشوق لرؤية منزلنا الاول في الجنوب على الضفة المقابلة للمحمرة. لكن مصائر المدن ورحيل ابنائها وكل ذلك الزهو المحبب والخجول قرب البحر، يذكرني بنصوص لخورخي بورخيس العظيم الارجنتيني التي عملت لها شيئا من المونتاج الصوري:
"لاعبو هذه الليلة، ينسخون الأوراق الرابحة.. التي اورثت زمن بوينس ايرس.. وهناك في الجنوب، بيت يبقى مفتوحا حتى الفجر. انه الساعة ينتظرني.. لحراسة ليلته الاولى في الموت.
الذهاب في عربة الموت، اي زهو؟ والجحيم فارغ.. والميت لا يصدق".
وليس في هذا دعوة لعويل جديد، لكن القصائد قد تشجعني على قضاء عطلة رأس السنة بين فردوس نخيل وقبر متخيل لابن الجوزي، ومعتزل تاريخي لواصل بن عطاء، على جرف شط العرب الذي شهد ثورة الزنج، ايام كنا نجرؤ على ركوب عربة الثورة.. عربة الموت. اي زهو؟