في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، تبينت وجهة نظر تمت إلى النهج العلمي بقدر ما تخص ميادين أخرى كالاتجاهات الثقافية والأدبية بل وحتى علم الاجتماع وحاولت التوصل إلى قناعة خاصة بما يمكن أن نسميه حتمية التطور الدائم باتجاه التجديد وتقدم الأشخاص المعنيين بإنتاج النصوص الإبداعية، وقد كان العديد من المفكرين الإنسانيين قد سبقوني الى التزامهم وجهة النظر تلك، ولا يقتصر هذا التطور الحتمي والتجديد في الإبداع أو في مجالات الحياة الأخرى، على بلدٍ دون آخر مهما كانت ظروفيهما مختلفة، بل من ميزته الأساسية، شمول حركة الحياة اليومية بمعطياته الملموسة، قد تتفاوت من بلدٍ الى آخر ومن انسان الى غيره، لكنها (المعطيات) تشمل الجميع في حركتها وتوجهاتها التي غالباً ما تتولد نتيجة صراع الأضداد بين الظواهر والأشياء وإذا أردنا تطبيق هذه النزعة التي تتسم باستمرار اندفاع وتيرة الحركة الى أمام واكتشاف مناطق جذب في حياتنا اليومية، إذا أردنا تطبيقها على تاريخ الأدب في العراق وتحديداً الرواية العراقية، سوف نجد ألا مفر من السعي الدؤوب للروائيين العراقيين، الساردين همومهم وأفراحهم، لأن يطوروا في أساليبهم والبحث عن خصائص ذاتية متجددة في القصة والرواية، فمن رواية محمود أحمد السيد (جلال خالد)، حتى آخر نص روائي كتبه شاب أو عدد من الروائيين الجدد الطالعين من الرحم العراقي الخصب، يأتي هذا الكلام في معرض تزكية عدد من الروايات العراقية الجديدة، التي شرفني فرع اتحاد أدباء ميسان بقراءتها في مسابقة أطلق عليها: مسابقة محمد الحمراني للرواية.. والمفرح، المبهج في الأمر، أن هذه المسابقة جاءت تخليداً لذكرى رحيل روائي شاب غادرنا مبكراً، كان باستطاعة صاحب رواية ((النائم بجوار الباب)) أن يرفدنا بالمزيد من ابداعه السردي المتميز، والأمر الثاني، أن الرواية العراقية الجديدة، بدأت تحتل حيزاً ملموساً في الفعاليات الأدبية والثقافية، خصوصاً في السنوات الأخيرة، وتحديداً بعد التغيير في عام 2003، في هذه المرحلة الضاجة بالكثير من الأحداث العنيفة وغيرها، برزت مضامين اجتماعية وإنسانية، وجدت لها اصواتاً روائية شابة، إضافة الى الأصوات الروائية الراسخة والمعروفة، أصوات جديدة مفعمة بحب الكتابة واحترام الحياة، وقد وجد المتابع الحريص على تصاعد وتيرة الفن الروائي في بلدنا، أن هذه الأصوات تمتاز بالكثير من روح التحدي، الذي يمنع التردد او التخوف من دخول مناطق كانت محرمة وممنوعة على الروائيين، أطلق عليها بالمناطق المسكوت عنها أو التي يشملها المنع من الخوض في غمارها، روايات الشباب أو الأصوات الروائية الجديدة، اخترقت هذا النمط من التفكير أو الممنوع لتدخل عبر اللغة الواضحة التي تحمل بين طياتها نوعاً من الثورية أو المجاز، لكن السائد في أغلب الروايات التي قرأتها، كانت روح المواجهة مع مجريات الواقع قاسية بل يسود لغتها الوضوح، الذي يجعلنا نقف أمام نوع من العمل السردي، راحت الرواية العراقية تطرقه دون تردد، هو الانغماس في الذاتي في مواجهة العام، أي فضح الواقع وما جرى للناس من ويلات وعذاب لا يمكن نسيانه عبر الحقب المنصرمة من نقدٍ جريء للمرحلة الحاضرة بما تحمله من فساد مستشرٍ في العديد من مرافق الحياة اليومية، وليس صحيحاً ان يفهم من كلامي هذا، أني أبشر بعودة نمط من الواقعية النقدية، بل وجدت في هذه الروايات التي تجاوزت الاثنتي عشرة رواية، ثراءً لغوياً يبشر بالوصول إلى نوع من الحساسية الجمالية والفنية بحيث لا خير من القول إنها انعطافة مباركة في الكتابة الروائية الواقعية الجديدة.. والأصوات التي التزمت بهذا المفهوم الواسع للفن الروائي ليست غايتها إدانة الشر فحسب، بل الكشف عن احتمالية العيش وسط الفوضى او الإفصاح عن الجمال داخل القبح.. فالرواية الحديثة الآن، سجل حقيقي لعالم السارد أو المؤلف، لذا نرى في فن كتابة الرواية، كما ترى الروائية الجيكية الأصل اميلي نوثومب صاحبة الروايتين المدهشتين (نظافة القاتل) (ورواية زئبق) ونوثومب تتبنى نظرة ستاندال حيث تورد في ص146 من رواياتها (زئبق)، قولها: "الرواية عبارة عن مرآة تطوف بها على طول الطريق"، وسوف يكون شرطها الإبداعي (الجمالي) والأخلاقي هو تحديد موقف المؤلف عبر الاستفادة من المخيلة التي لا مفر من اللجوء إليها، لأن الواقع قد يصبح خارج النص في بعض الأحيان أو الصفحات، ويرى ميلان كونديرا: "إن الرواية هي المكان الذي تستطيع المخيلة أن تتفجر فيه، كما لو كان الأمر في حلم"، فن الرواية ص23.. لقد برز عدد غير قليل من الروائيين الحالمين بكتابة نص روائي يتسم بفضح الواقع عبر اللجوء إلى المخيلة المترعة بالأسى.. إنني هنا أشير ايضاً إلى أولئك الروائيين الذين اشتركوا (بنصوصهم) في مسابقة الحمراني للرواية، وسوف أشير ايضاً إلى عدد من أسماء الروايات التي احتلت مكانة متقدمة من المشهد برمته والذي فرضته المسابقة، فقد جاءت رواية (جسد الصمت والهذيان) لمؤلفها ابراهيم الغالبي، تعبيراً عن العذاب الشخصي لساردها المحصور في مستشفى للجملة العصبية (ابن القف) وما ينتابه من حالات الهذو في عزلته الأبدية، وقد توفرت هذه الرواية على قدر كبير من المصداقية والفن، وان بعض هذا ينطبق على رواية (ليالي اراكي السود) لنور الدين البصري، والعنوان وحده يشي بدلالة الموضوع الذي تناولته الرواية، وبقدر كافٍ من التميز تمتعت به رواية (كوتاريا) لنعيم ال سافر، والتي تعرضت الى قضية الفوضى والدمار في العهود السابقة واللاحقة، وحظيت (كوتاريا) بميزة الفن الروائي كما ينبغي للرواية الحديثة أن تكتب.. ولا يمكن الإشارة هنا إلى كل الروايات التي نالت رضا لجنة قراءة النصوص، ولكن لا بد من التعرض إلى روايتين كشفت الأولى (المحجوب بقمره الواحد) لمؤلفها الشاب حسين محمد الشريف، عن إمكانية خاصة في تحديد السمات الشخصية للسارد والمقدرة على التنويع في زوايا النظر والانتقال الشفاف من مكان إلى آخر وبحرفية روائية ملموسة، أما الرواية الأخرى: (أرض الخاتم) والتي اعتبرت من حيث الأسلوب والمعالجة الذكية بحيث لن تخطئها العين بميزات الفن الرفيع.
إن الحديث عن مجموعة الروايات التي نعتقد أنها تستحق الطبع والنشر بتبني وزارة الثقافة بالتنسيق مع فرع اتحاد أدباء ميسان أو أن اتحاد الأدباء المركز العام، بتبني مسألة طبع هذه الروايات ليسجل موقفاً غير مسبوق باحتضانه نتاج فروعه التي تكافح من أجل بروز الأصوات الإبداعية لها.
وإذا كنت قد قرأت من بين ما قرأت من روايات (المسابقة) فاني هنا أود الإشارة الى رواية نالت محبتي الشخصية مع الروايات الأخرى ألا وهي (فوتو المملكة)، إن هذه الرواية قد أخذت من الجرأة وروح المداعبة السوداء الشيء الكثير مما يميزها عن سواها بنوع من الاحتراف المبكر لمؤلفها فقد دخلت (فوتو المملكة) على الوجع العراقي عبر عهود الظلم والظلام، وهنا لا يسعني إلا تهنئتي الخاصة لمؤلفها الأستاذ مرتضى المنان وما أريد تأكيده: أن مستقبل الرواية العراقية لن يناله الوهن خصوصاً إذا ما سعى أدباء العراق جميعهم إلى اقامة المزيد من المسابقات والفعاليات المثمرة بحق، في مجال كتابة الرواية التي نريد لها أن تتنفس المزيد من الهواء النقي، الذي ينبغي له أن يدب في أوصلها ونتاجها المنتظر.