اشعر برعب وأنا اقرأ بحثاً علمياً أنجزه أستاذ إيراني حول معدلات الذكاء في بلاده، واستنتاجه بأن الجوع الذي تفرضه العقوبات الدولية يؤدي الى نقص في وظائف العقل وقدراته. وللحظة انسى ايران واسأل عن جوعنا العراقي الذي استمر طويلا، فهل هناك بروفسور عراقي حاول المقارنة بين معدلات ذكائنا قبل الثمانينات وبعدها؟ وحقا اننا فقدنا قدرا من عقولنا بسبب الحصارات الاقتصادية وغير الاقتصادية؟ ليفاجئني نوع آخر من الجوع اخطر بكثير، يصيب بعض الساسة المتخمين ويبدد عقولهم.
الحديث عن الذكاء والعقل يعيدني قليلا الى ايام الدراسة في ايران، حيث كنا مجموعة فتيان نحاول فهم "الحكمة" على يد أستاذ تركي هناك، ينقلنا من كتب ابن سينا حتى ابن رشد، ويقارن بمعالجات عصر التنوير الأوربي من لايبنتز حتى بوبر. لكن كل هؤلاء كانوا مثل ذيمقرطيس وسقراط، مشغولين بالخصومة حول مستويات العقل ومراتبه وكيفية تحصينه من ضرر الخيال والحس. لم يناقش احد منهم احتمال ان يؤدي الجوع الى فشل عقلي. بل شاعت بينهم حكمة معكوسة تفيد ان البطن المليانة تجمد الحكمة، ولذلك فقد كان معظم الفلاسفة يتفاخرون بجوع الزاهد.
ويبدو ان المعادلة انعكست في آخر الزمان، ولم يعد الجوع سبيلا للحكمة هذه الايام، فالبروفسور الايراني يتحدث عن مرحلة ما بعد الفلسفة في احدث نتائج العلوم الادراكية، ليحصي عناصر غذائية تدعم الذكاء، وهي عناصر تختفي من موائد الناس في ظل العقوبات الدولية.
يقول ان ايران كانت تحظى بمعدل ذكاء "اي كيو" هو الافضل في الشرق الاوسط، لكن الاحصاءات في الجامعة تقول اليوم ان المعدل فقد خمس درجات خلال اخر سنتين، ويفسر ذلك بان الإيرانيين بدأوا يجربون الجوع ويخسرون ذكاءهم.
الايراني يذكر ان هجرة العقول تخفض معدلات الذكاء (فالأكثر ذكاء يهاجر)! ويترك وراء ظهره الاحتمالات السوداء في سياسة بلدان يحكمها مجانين. إن بلدا مثل إيران (والعراق أيضا) يفقد اهم اذكيائه منذ سنوات طويلة.
ماذا نقول لو اردنا تطبيق هذا الكلام على الحالة العراقية؟ انني اشعر بالرعب، لان صدام حسين بدأ بتجويعنا منذ الثمانينات، واتذكر في طفولتي كيف كنا نقف في طابور طويل لنحصل على بيض المائدة او معجون الطماطم! أتذكر أيضاً ان جدتي البسيطة كانت تقاتل لتنويع المائدة وتصدر تعليمات عديدة لنا اثناء تناول الغذاء، قائلة: طعام جيد يعني درجات جيدة في الامتحانات!
الفرضية المرعبة لتأثير العقوبات الدولية وهجرة العقول قد تعني اننا نعاني نقص ذكاء حاد في هذه اللحظة من التاريخ. ولذلك ربما نجد جزءا من الجمهور يصفق للقوي الاهوج ويحب حاكما يلعب بالمسدسات دون استيعاب درس الماضي. ويشجع المستبد احيانا كي يثير حماس شعب يشعر بالملل وينتظر جديدا في حياته، على طريقة: اذا لم يمكن ان نفرح بصعود وارتقاء، فتعال نجرب متعة السقوط والانتحار!
الجمهور احيانا ولانه يفقد جزءا من عقله، يشعر بمتعة خفية في بداية الكارثة، لأنها تغير روتينه المعتاد الذي عاشه هو وأسلافه كقرون من الملل، كما اشرت قبل ايام.
ولعل جزءا من افتقادنا للنظام يعكس خللا في وظائف عقولنا، ويجعلنا نقرأ في تقرير ديوان الرقابة ان حرس الحدود التهموا في الفين وعشرة فواكه اشترتها الداخلية عام الفين وثمانية! وان موظفي المستشفيات يلتهمون طعام المرضى. واننا بدل ان نتعلم مبادئ التعايش الحديث، ننهمك في تبادل اقذع الشتائم ونصنع "حروبا مقدسة" على فيسبوك.
الامر بحاجة الى فتوى علمية من الجامعة. والقصة مثيرة ومحزنة في زمن لم يعد يعتبر الجوع ممرا للحكمة. الا ان الأخطر هو نقص وظائف العقل لدى السلاطين والساسة. الأخطر من اصابة الفقراء بنقص معدلات الذكاء، هو إصابة بعض الساسة بجوع عقلي ينقص معدلات ذكائهم. لم يقم احد بتجويعهم، وهل يمكن تجويع الالهة؟ لكن هذا البعض من الساسة يقوم هو بفرض عقوبات على عقله ويعتبر افكار القرن الحادي والعشرين غذاء ساما، فيرفضها ويصوم حد المجاعة ويضرب عن طعام الحداثة العقلاني، فتختل وظائف دماغه.
وبدلا من مساعدة شعبه الفقير كي يتلافى اثار الحرمان، يقوم هذا النوع من الساسة الجوعى، بإغراق الاسواق بسايبا ايرانية ومولدات صينية ويفتح النار على جميع خصومه ويخطط لاحراق "الرايخ".
ان ذكاء الياباني يتزايد بتسارع حسب دراسة البروفسور الايراني، لان المجتمع هناك يخوض جدلا متواصلا حول أمور مفيدة ويبتهج بابتكارات حديثة كل يوم. ولديه نخبة لا تهاجر وحاكم لا يصوم عن أفكار القرن الحادي والعشرين، بل ينخرط في صناعة فكر المستقبل. أما الشعب الذي يتبادل شتائم طائفية مقذعة على مدار الساعة، فإنه يخسر عقله، سواء كان الجوع ممرا للحكمة او سببا لفشل فسلجي في المخ. الحكاية جزء من سيرة لوصف الغباء عبر التاريخ في شرقنا الاوسط، تقول لنا كيف صرنا عالقين في القعر خلال آخر ألف سنة.
جميع التعليقات 1
سيف العكَيلي
الساسة العراقيين الان لهم خصوصية عظيمة بتحقير واستغباء الشعب الذي تحمل مجبوراً على مر العقود السابقة استهتارهم والى اليوم وكانت النتيجة كارثية من جانبنا كشعب فاليوم اصبحنا ندافع عن السارق بدل ان نحاسبه .... حياك الله ابو اسراء ما قصرت اليوم ويانه كلمن يحج