(3-3)
من أجل عقد مقارنة بسيطة بين حياة الكاتبين الإيرلنديين العبقريين، بيرنارد شو وأوسكار وايلد، من الضروري العودة إلى سنوات سابقة، قبل الدعوى القضائية التي رفعها مركيز كوينسبيري والد عشيق أوسكار وايلد (والذي كان نموذجه في شخصية دوريان جراي) ضد أوسكار وايلد. فبينما كان صاحب دوريان جراي ما زال يستمع في صالون "سبيرانسا" للأدب والأساطير، هرب رفيقه الأكبر منه سناً بيرنارد شو، إلى البيت الصغير في "سينغ ستريت"، في الحي الدبلني "بورتوبيلو"، حيث كان يعيش أهله، وحيث "كان الجو الخالي من الحب لاحتقار الطبقة العليا للخدم في الذين كان عليهم العيش الطابق الأرضي". في ذلك الوقت أيضاً، تناقل الناس الفضيحة التي سببتها أمه. ففي الصالون الذي أسسته، الصالون الخاص بالموسيقى، أقامت الأم علاقة مع معلم الغناء مستر "لي". كان الوضع "يحمل ما يكفي من الإزعاج"، كما كتب بيرنارد شو في يومياته، بسبب شجار الوالدين، الذي كان على الشاب بيرنارد شو عيشه، لأن العائلة كانت تسكن في مساحة ضيقة، وكان عليهم تقاسم المكان بين بعض.
على العكس من أوسكار وايلد، لم يزر بيرنارد شو، ابن تاجر للحبوب، المدرسة إلا سنوات قليلة، ففي سن الرابعة عشرة، ترك المدرسة نهائياً، ليقوم بتربية وتعليم نفسه. "جامعتي فيها ثلاث كليات"، قال لاحقاً، "مجتمع الموسيقى، المتحف الوطني، ودالكي هيل". في "دالكي هيل"، اعتاد شو قضاء عطلته الصيفية، أما مجتمع الموسيقى الذي كان تحت قيادة "جيورج فانديرلور لي" (عشيق أمه)، فقد كان يجتمع معظم الوقت في صالون السيدة شو. وفي ما يخص المتحف الوطني فقد أوصى بيرنارد شو بعد ذلك بترك ثلث دخل مسرحياته له.
كان بيرنارد شو أيضاً شخصاً غير مريح لمعاصريه. مسرحيته "وظيفة السيدة وارين" مثلاً، تناولت موضوعة إمكانيات الكسب المحدودة للنساء وتوزيع الأدوار التقليدي في مؤسسة الزواج والذي يقترب في حالات معينة من البغاء، مُنع عرضها منذ وقت طويل. لكن بيرنارد شو لم ييأس، إصراره على الكتابة للمسرح وإيمانه بموهبته، منحاه قدرة القفز على ظله من ناقد موسيقي ومسرحي في لندن، إلى المسرحي الأكثر إثارة للجدل، المسرحي الناجح الذي يحصل على جائزة نوبل في العام 1925 (والضي سيكون أول من يرفضها). في البداية ومباشرة بعد صدور الحكم على شريكه في المواطنة أوسكار وايلد حاول بيرنارد شو توظيف نجاحه لمساعدته،وشرع بالفعل بكتابة مرحمة تطالب بإطلاق سراح صديقه. لكنه عرف في نفس الوقت بأن توقيعه على ورقة مثل هذه لن يساعد بالتخفيف من الغضب على أوسكار، بل على العكس.
في النصف الثاني من حياته أصبح بإمكان بيرنارد شو التحضير بهدوء لتخليد نفسه. البوسترات التي يراها الزائر اليوم على واجهات شارع "سينغ ستريت 33" التي تشير الى أن "بيرنارد شو، مؤلف مسرحيات عديدة" وُلد هنا، كان قد صممها بيرنارد شو بنفسه قبل موته بسنة، في 2 نوفمبر 1950. أما البيت فقد تحول إلى متحف منذ 1993. أعيد ترتيب الأثاث حتى التفاصيل الأخيرة كي يعطي الزائر الانطباع بأن عائلة بيرنارد شو التعيسة غادرت البيت تواً. رسوم وقصاصات تتعلق بالناقد والمسرحي زينت الجدران وغرفة النوم التي وُلد فيها بيرنارد شو، بينما تكمِّل قطع الملابس وصور الطفولة بقية المشهد الداخلي للبيت ـ المتحف.
حياة الصغير بيرنارد شو دارت بصورة كبيرة في الطابق الأول، في غرفته الصغيرة، في المطبخ وفي السرداب. في هذه الأماكن صاغ تأملاته الأولى للعالم ـ عن الزواج، دور المرأة والمجتمع الفيكتوري، العلاقة بين الخدم والسادة. مع هذه الصور التي ازدحمت في الرأس، بدأ مشواره، ومن غرفة طفولته الضيقة هذه شق بيرنارد شو طريقه، ليتحول مع مرور السنوات إلى أحد أهم أصوات جيله.