(2)
*في إعمالك التشكيلية تحاول إيجاد تيار حداثوي أو ربما ما بعد الحداثة لما يعكس خصوصية القرن الحادي والعشرين وهو بالتالي مختلف عما جاء به رواد الفن التشكيلي في العراق،ما هي ملامح هذا التيار أو المدرسة الفنية الجديدة التي تبحث فيها، وكيف يمكن للمتلقي أن يدرك ما يجده عصيا على فهم مكوناتها لكي يكون هو الفاعل والمشارك بها.
-سألوا الفنان بيكاسو يوما، كيف (اخترعت) المدرسة التكعيبية؟ فأجاب أنا لم أخترعها بل (اكتشفتها)، لقد كانت موجودة.. لكننا لا نراها!هذا الفهم الفني كان ببساطة مفهوما فلسفيا عميقا لاكتشاف مدرسة جديدة في الفن وهي المدرسة التكعيبية التي أثرت حينها على كل تجارب الفن الحديث، فقد أثرت على الفن التشكيلي والمعماري والسينمائي وألقت ظلالها حتى على الآداب. هذا هو ذات المنطق الذي أتبعه لاكتشاف الواقعية المفاهمية الجديدة أو ما أسميتها بـ(البيئوواقعية) في الفن. من مفهوم أن مواد التغيير موجودة حولنا وما علينا إلا اكتشافها!!
وعلى وفق هذا المفهوم علينا أن نغير أيضا أساليبنا التقليدية في فهم وتقييم العمل الفني، فكل فكرة أو صورة واقعية عندما تكون في عقل حيوي أو خلاق يمكن أن تنتج عملا فنيا وجماليا مبدعا. وإن هذا العمل المنتج إنما هو موجود في الواقع حولنا وما علينا إلا اكتشافه وتطويره بشكل خلاق. هذه الرؤية الفنية الخلاقة تختصر لنا ببساطة متناهية فلسفة فنية غيرت مجرى تاريخ الفن الحديث ودخلت به إلى الفكر الفني المعاصر.
*هل للأيديولوجيا السياسية من حيز في بحوثك الفنية وخصوصا أن كثيراً من المتغيرات قد حدثت من جراء الفكر السياسي والأيديولوجي سوء في العراق أو في العالم العربي الذي شهد كثيرا من الأزمات والتناقضات الحادة في الأفكار والرؤى. فسقوط بعض الأنظمة وتفاقم حدة الصراعات التي كان بعض الفنانين العراقيين مساهمين بشكل أو بآخر فيها، سقطت التجربة الفنية الممزوجة معها هذه الأنظمة. ألم تلق هذه التناقضات بظلالها على بحوثك وأعمالك الفنية ؟
-إن الحديث عن الايديولوجيا والفن حديث واسع، وهو اكبر من الحيز الذي نحن فيه الآن، لأنه سيقودنا نحو الحديث عن طوباوية المثقف والفنان وازدواجيته. أما سقوط الايدولوجيا وتراجع دور الفنان وهو بلا شك موضوع مهم في الثقافة وخصوصا الثقافة (الشرق أوسطية) لما لعبته الايدولوجيا من دور كبير في تسييس الثقافة وجعلها محتوى أساسيا لبقائها بدلا من أن تكون محتوى ثقافيا. في عام 1993 بعثنا أنا وزوجتي الفنانة مها مصطفى مرة برسالة إلى أهلنا في بغداد نسألهم عن بيتنا الذي تركناه وأشجارنا الباسقة التي تحيطه وخصوصا بعد التلوث البيئي الكبير الذي أصاب البيئة العراقية بعد حرب الكويت. جاءنا الرد سريعا وقاسيا في نفس الوقت، إن كل شيء قد دمر وان جميع الأشجار قد جفت وماتت! هذه الحادثة قد صدمتنا بقوة وجعلتنا نتساءل. هل يمكن أن يكون هذا الحدث فنا؟ أعتقد أن مثل هذه الأفكار كانت بعيدة كل البعد عن منطقة تفكير الفنانين التشكيليين آنذاك والأجيال التي جاءت بعدهم . لقد خلقت الظروف السياسية التي عشناها إبان الثمانينات من القرن الماضي دكتاتوريات فنية تابعة للدكتاتوريات السياسية، ولهذا رأيناها قد اكتشفت فشل مشروعها الفني حال سقوط حاضنتها الأيدلوجية والسياسية.
*ألهبت محاضرتك التي أقمتها في مؤسسة المدى خلال الشهر الماضي حراكا فنيا مهما مما أدى إلى إثارة بعض الإشكالات الفنية لدى بعض الفنانين والكتاب والتشكيليين، وعلى ما يبدو أنك صاحب بيان فني جديد. فهل لك أن تبين لنا بعض مفردات هذا البيان؟
-عام 1984 من القرن الماضي نشرت مقالات عديدة في الصحافة العراقية آنذاك تعكس أفكارا ليبرالية تحررية في الفن ، واليوم كذلك جئت لأعلن من جديد شعار الحرية للفن وللمفهوم بعيدا عن تلك القيود التاريخية والتراثية والسياسية التي أثقلت هذا الفن والذي تهالك تحتها بسبب كثير من المسميات. أريد أن أقول بأن الفكرة هي الأداة التي تصنع الفن وليس المادة أو الشكل أو المضمون. أريد أن نحيي فن الفكرة والمفهوم. إننا نفهم الشكل والقشرة الخارجية للفكرة ولا نغور في عمق فلسفة الفكر، لسبب بسيط لأن ثقافتنا ثقافة بصرية وليست ثقافة فكرية ،ولذلك فان الشكل سهل للفهم علينا والمعنى عصيّ عن التعريف!
نحن اليوم بحاجة إلى فن واقعي و ثقافي وعلمي وحياتي ضمن سياق فكر الفن المعاصر. فهذا الفن لايمكن أن يكون بلغة وأسلوب وطريقة الفن التشكيلي التقليدي، وإنما لابد أن يكون بسياقات جديدة أكثرالتصاقا وتعبيرا عن الإنسان وحياته اليومية. هذا الفن سيحقق فوائد ثقافية واجتماعية وتعليمية وبيئية، لأنها تعتمد على وسائل تعبيرية متنوعة لتحقق أكثر من هدف واحد من خلال أسلوبها الحر، إضافة إلى أنها تأخذ أشكالا تعليمية وعلمية تختلف عن طبيعة الفن التشكيلي التقليدي الذي يعكس شكلا بصريا مورفولوجيا افتراضيا ومتخيلا وبعيدا عن ماهية ومفهوم الواقع. الفن كما يقول الفنان (جوزيف كوزوث) غير موجود في الأشياء إنما هو موجود في المفهوم، مفهوم الفنان والفكرة في العمل الفني.على هذا السياق تكون هوية العمل الفني قد تغيرت من التعبيرعن صورة الفكرة إلى طرح الفكرة ذاتها كمفهوم اجتماعي وسياسي وتعليمي وجمالي وعلمي.
*لعل رهافة وجمال أعمالك الحديثة والحداثية التي صممت بمخيلات كبيرة وبوسائل مختلفة ،منها الفديو آرت والكمبيوتر والفوتوغراف والرسم، والتي خرجت فيها من اطر المواد التقليدية إلى خارج إطار اللوحة وخارج حدود قاعة العرض ، فلم يعد عملك الفني سجينا داخل قاعة العرض الفنية أو داخل إطار اللوحة. أتساءل الآن، إلى أين وصلت وسائلك وموادك الفنية الجديدة في تطوير تجربتك الفنية التي تقف في مصاف التجارب العالمية المميزة والتي شكلت حضورا واضحا في أوروبا.-لقد أنجزت هذا العام عملا فنيا (فيديو آرت) عرض في متحف موري للفن المعاصر في طوكيو بالتعاون مع أستاذ علم النفس البروفيسورالامريكي (بيري كوميساروك) عميد الدراسات العليا في جامعة نيوجرسي،حاولت فيه أن أجمع مابين الطب والجسد الإنساني وحرية العقل، كاشفا عما يحدث للدماغ البشري من تغيرات عندما يتعرض الجسد للقسوة والعنف و لماذا يشكل الرأس دائما مشكلة اجتماعية وسياسية.
إنني أحاول الآن مع فريق عمل حولي من الشباب المصورين السينمائيين والكتاب والنحاتين والرسامين والمعماريين من رسم أطلس جديد لبغداد، وهو ليس أطلسا سياحيا وإنما أطلس ثقافي وبحثي ووثائقي يجمع الجغرافيا والبيئة والتاريخ والطبيعة والسياسة ومصادر الحياة اليومية ليكون خارطة جديدة لفهم الواقع والحياة اليومية للإنسان في العراق. سأحاول استخدام وسائل وتقنية جديدة لاترتبط بصلة بمواد الفن التشكيلي التقليدية من رسم ونحت. فمثلما نبحث عن فكر جديد للفن، علينا أن نبحث عن مواد وطرق جديدة للتعبير.
*كيف يفسر الفنان الكبير إبراهيم رشيد البيئة حينما تنتج ظواهر بيئوية سالبة ومدمرة لحياة الإنسان، علما انك أوضحت أن معظم الفن العراقي كان انعكاسا بصريا للواقع وليس انعكاسا فكريا أو مفاهيميا. فما هي تصوراتك الجديدة لتلك الظواهر وماهي انعكاسات بحوثك الفنية عليها؟
-اسمح لي أن أبين لك مرة أخرى أن معظم بحوثي واستنتاجاتي الفنية تنتمي إلى الواقع وهذا الواقع المحلي العراقي بالتحديد وليس الواقع الفلسفي النظري. كتبت مرة دراسة فنية بعنوان (لعبة الصخور الملتهبة)عن الفن والبيئة نشرت في كتاب فني بعنوان (ملامح من العبقرية)وطبع في لندن عام 1996. تناولت فيها حادثة واقعية أسردتها لي زوجتي الفنانة مها مصطفى تحدثت فيها عن طفولتها عندما كانت تزور مدينة كركوك في إقليم كردستان شمال العراق، وبالتحديد في منطقة (بابا كركر) الغنية بالبترول، وكيف كانت هي وأقرانها يلهون برمي الحجارة بقوة فوق سطح الأرض الصخرية فتشتعل لهبا! هذه الحادثة قد أثارتني كثيرا وجعلتني اكتب تلك الدراسة الفنية وابحث فيها السؤال الذي طالما شغلني، هل يمكن للبيئة أن تخلق فنا؟ هذه ظاهرة بيئية خلقت فنا بفعل بشري وعفوي. فكيف يمكن لهذا الأداء أو الفعل الإنساني أن يعكس مفهوما في الفن والبيئة. وكيف يمكن لهؤلاء الأطفال ولهذه الصخور الحجرية الملتهبة ولهذه الأرض أن تخلق شكلا ومعنى فنيا وبيئيا واقتصاديا وسياسيا من هذه الأرض الغنية بالبترول والتي أحرقت نفسها أو احرقوها!
إن المتأمل لمثل هذه الظواهر البيئية يجد أنها شكلا من أشكال فن البيئة ، حيث تجد البيئة هي صانعة العمل الفني.أما الإنسان فهو الفاعل وما علينا إلا أن نكتشف هذا الفن مثلما فعل بيكاسو، ونترك التفسير المفاهيمي للمتلقي ! ففي هذه الصورة نجد البيئة والطبيعية والواقع والاقتصاد و تلوث البيئة والحرب والطاقة والإنسان، كل هذه العناصر يمكن أن تنعكس في هذا العمل لو شئنا أن نستحضرها بأسلوب فكري وليس بأسلوب بصري فقط. أريد أن أقول إن هذا هو خزين لا ينضب من الصور الفنية التي لو قدر لها أن تكون في عقل حي لأنتجت فنا بصريا جديدا.