TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > المالكي فـي عام

المالكي فـي عام

نشر في: 30 ديسمبر, 2012: 08:00 م

أمام الأزمة المركبة التي نمر بها، والفشل الواضح على المستويات جميعها، يبقى الثابت الوحيد هو إرادة السيد نوري المالكي الراسخة في تكريس رؤيته للدولة وللنظام السياسي بعيدا عن أية مرجعية إلا مرجعيته هو، أو على الأقل تمثلاته وتأويلاته الشخصية للدستور والقوانين. وتحظى هذه الإرادة الأحادية بمؤازرة مطلقة من أعضاء دائرته المغلقة في دولة القانون، وبتأييد مطلق من التابعين له رغبة أو رهبة، وكل هؤلاء لا يحاول تنبيه الرجل إلى حقيقة أن تاريخ "رؤية الرجل الواحد" قد ولت،  وأنها قادت - وستقود حتما- إلى خراب البلد وانهيار الدولة المنهارة أساسا.

لن أعيد سرد تاريخ حكم المالكي بالتأكيد، ولكني سأقف عند حصاد السنة الأخيرة. فبعد عودة السيد المالكي من واشنطن وهو يحمل ما اعتقده "تأييدا مطلقا" من الرئيس أوباما لحكم العراق بالطريقة التي يريد، قلت يومها أن مشهد المؤتمر الصحفي الذي قدم صورة وردية بعيدة عما يشغل بال العراقيين جميعا، ومعهم العديد من مراكز الأبحاث والدراسات، أغفل عن جهل وتعنت  احتمالات انتهاء الهدوء الهش، وليس الاستقرار، في العراق بعد الانسحاب الأميركي. وعن احتمالات تفكك الدولة بالكامل، وعودة الحرب الأهلية، في ظل أزمة النظام السياسي وعجز هذا النظام عن حل الصراعات المتعددة بين الجماعات السياسية. وقلت أيضا إن هذه الصورة الوردية لن تغطي على لون الدم الذي بدأنا نتحسسه من الآن في ظل الصراع المتصاعد في ظل وهم القوة الذي ينتشي به البعض.

هل تذكرون كلام السيد أوباما آنذاك!  لقد تحدث عن عراق "يعكس اليوم تقدما مثيرا للإعجاب صنعه العراقيون"! وعن عراقيين "يعملون على بناء مؤسسات تتسم بالكفاءة ومستقلة وشفافة"! وعن رئيس وزراء "يقود حكومة هي الأكثر شمولا inclusive حتى اليوم"! وأخيرا عن "إحصاءات لافتة للنظر" في ما يتعلق بالبنية التحتية والتنمية! و عن "تقديرات" بأن اقتصاد العراق سينمو أسرع حتى من الصين أو الهند! وهي رؤية لا تتوانى عن جعله "نموذجا للمنطقة بأكملها" ،إذ من شأنه أن يرسل رسائل قوية للمنطقة العربية بأنه "بلد الناس فيه من مختلف الطوائف الدينية والعرقيات يمكن حل خلافاتهم سلميا من خلال العملية الديمقراطية"!

كان هذا المديح بمثابة طمأنه لرئيس الوزراء العراقي الذي أقدم على سلسلة من الإجراءات بعد خمسة أيام فقط من هذا المؤتمر ، ففي 17 كانون الأول 2011، حيث وجه المالكي كتابا إلى مجلس النواب يطلب فيه سحب الثقة عن نائب رئيس الوزراء صالح المطلك، بدعوى أن الأخير ليس أهلاً لشغل المنصب،. وفي 19 كانون الأول 2011 ،بعد أسبوع فقط من هذا الإجراء، تعرض وزارة الداخلية العراقية ما سمي "اعترافات" مجموعة من حماية نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، حيث اضطر الرجل للهروب إلى تركيا.

ثم ألهانا السيد المالكي بمسرحية  "المؤتمر الوطني" أو "اللقاء الوطني" التي استمرت أشهراً، وقد قلنا يومها أن لا إمكانية لانعقاده، وصدقت توقعاتنا، لأنها كانت قائمة على تحليل للمواقف وليس للخطاب الإعلامي. وشكلت محاولة سحب الثقة، الخطوة الأبرز  لتشكيل "موقف سياسي وطني" عابر للهويات الفرعية عبر مؤتمري أربيل والنجف،  ولكنها أجهضت لأسباب كثيرة. وما يهمنا هنا أن السيد المالكي ومريدوه تصرفوا بطريقة تكشف عن عدم احترام مطلق لشروط اللعبة الديمقراطية (من يصوت لوضع شخص في مكان ما له الحق بالتصويت على عزله)، وعن عدم احترام مطلق للدستور الذي نظم آلية منح الثقة وسحبها.  حتى وصل الأمر في النهاية إلى التهديد الصريح لكل من يفكر بهذا الأمر مرة أخرى! 

محاولة سحب الثقة وما نتج عنها دفعت بالسيد المالكي إلى التوجه شمالا هذه المرة، ومحاولة إعادة صياغة علاقات القوة في عراق ما بعد 2003، وقلنا في مقال سابق إن روليت المالكي للبقاء لولاية ثالثة سيعتمد على إعادة التحشيد من خلال استخدام الخطاب القومي.  وقلنا أيضا إن هذا الروليت يظل مرهونا داخليا بتطورات التحالفات السنية التي سترث القائمة العراقية ومدى قدرتها على إنتاج خطاب قادر على تجميع الأصوات السنية، وقد صدق هذا التحليل فكنا مع نهاية العام أمام "غزوة" لمكاتب الدكتور رافع العيساوي لاعتقال حماياته، تمهيدا لإزاحة الرجل في سيناريو شبيه لما حدث مع السيد طارق الهاشمي. ولم يكن تصريح أحد مريدي المالكي، عن وجود اعترافات بتلقي أوامر مباشرة من الدكتور رافع العيساوي لتنفيذ عمليات إرهابية، سوى مؤشر على هذا السيناريو. فالسيد المالكي اعتقد أن الإطاحة بوزير ماليته الذي شكل مع رئيس مجلس النواب وآخرين ائتلافا انتخابيا قد يساعد "تابعيه" من أعضاء العراقية السابقين، و "تابعيه" من الشخصيات السنية التي عكف السيد المالكي على تصنيعها طوال الأشهر الماضية، وبعضها محكوم جنائيا من القضاء "المستقل" الذي يتغنى به كثيرا! على تثبيت مواقعهم تمهيدا لانتخابات 2014. فستراتيجية الرجل لانتخابات 2014 تقوم على الاعتماد على أصوات "هؤلاء" بديلا عن أصوات التحالف الكردستاني للحصول على الأغلبية المطلقة في مجلس النواب للفوز بالولاية الثالثة من جهة، واستخدامهم في ما يتوهم أنها "حكومة أغلبية سياسية" تحدث عنها كثيرا، بوصفهم  "يمثلون" المكون السني من جهة ثانية.

شيعياً بدا واضحاً أن السيد المالكي يريد إعادة رسم خارطة القوى الشيعية بطريقته الخاصة، فبعد انتهاء حزب الفضيلة إلى أن يكون ملحقا بحزب الدعوة، وتمكن المالكي، عبر التدخل الإيراني المباشر، من تفكيك المجلس   الأعلى الإسلامي من خلال التحاق منظمة بدر بمعسكر المالكي من جهة، وعجز السيد عمار المالكي عن الاستمرار في ما بدأه أثناء أزمة تشكيل الحكومة، ثم بعد ذلك مواقفه من القوى السياسية المحلية والإقليمية (لم تكن زيارة السيد عمار الحكيم تركيا في أوج المواجهة بين السيد المالكي وأردوغان صدفة بالتأكيد)، لينتهي مؤتلفا مع المالكي من جهة ثانية، ويبقى الممانع الوحيد حتى اللحظة التيار الصدري الذي يواجه هجمة غير مسبوقة من المالكي وصلت إلى وصف زعيمه بأنه زعيم مليشيا قتلت العراقيين، ويسعى المالكي إلى استخدام "العقلانية" التي يبديها التيار لتسويقها "شعبويا" على أنها مواقف تضعف "المذهب" من أجل إضعاف فرص التيار في الانتخابات القادمة.   

هكذا بدأ السيد المالكي عام 2012 باعتقالات وإسقاط لخصوم سياسيين، وأنهاه باعتقالات أخرى ومحاولات أخرى لإسقاط الخصوم السياسيين، وقائمة الخصوم هذه مرشحة للزيادة، وما الموقف من النائب أحمد العلواني وآخرين، سوى مقدمة لهذه القائمة، وسيتم مرة أخرى استخدام الدستور والقانون لتحقيق غايات سياسية وانتخابية، من دون أدنى انتباه من السيد المالكي ومريديه المؤيدين له دائما، إلى ما يمكن أن تؤديه هذه السياسات من شرخ سياسي ومجتمعي سيصعب على الجميع تجسيره. إن تظاهرات الجغرافيا السنية الغاضبة، التي تعبر عن شعور حقيقي بالاستهداف، يجب أن يتم التعامل معها بأقصى عقلانية ممكنة، وفي ظل ما تعودنا عليه من غياب العقل في صناعة القرار السياسي في العراق، أخشى أن يتم استخدام مضاد للشارع الشيعي، كما تم يوم الجمعة في النجف، ومن ثم تحويل الأزمة من أزمة سياسية تتعلق بمطالب محددة لجمهور محدد، إلى مواجهة طائفية تزيد من الانقسام المجتمعي القائم أصلا.

عام واحد على عراق من دون قوات "احتلال"، أو "متعددة الجنسية"، أو "قوات صديقة بموجب معاهدة"، واجهنا فيه جنودا ومدافع وخنادق متقابلة مرتين على الأقل بين قوات الحكومة المركزية وقوات إقليم كردستان، وواجهنا فيه محاولات منهجية لإقصاء رموز سياسية حظيت بالنسبة الأكبر من أصوات مكونهم الاجتماعي، وواجهنا فيه محاولات منهجية لتكريس سلطة "الزعيم الأوحد" عبر "احتواء" الهيئات المستقلة، آخرها كان البنك المركزي العراقي، وواجهنا محاولات منهجية لإعادة صياغة النظام السياسي بحيث تكون فيه العلوية للسلطة التنفيذية ممثلة برئيس مجلس الوزراء حصرا على بقية السلطات، كان آخرها توجيه أمر مبطن إلى الجناح الثاني للسلطة التنفيذية وهو رئيس الجمهورية بالصمت وعدم التدخل في شؤون الدولة، وتوجيه أمر آخر إلى السلطة التشريعية، بعد سلبها سلطة التشريع، بأن لا حصانة للنواب خارج قاعة مجلس النواب! وواجهنا محاولة منهجية لإبقاء الهيمنة على السلطة القضائية، عبر قرارات "غير مسوغة" للمحكمة الاتحادية، وعبر قرارات "غير مفهومة" لمجلس القضاء الأعلى، وعبر محاولة إبقاء السلطة القضائية بيد رجل واحد "متفهم" كما أراده مشروع قانون السلطة القضائية الأخير الذي لم يمر، ولكن "دولة القانون" قالت إنها ستلجأ إلى "المحكمة الاتحادية" ليكون "الرجل المتفهم" نفسه، الذي أزاحه القانون الأخير من موقعه، مسؤولا عن تقرير مدى "دستورية" هذا القانون! وكنا أمام محاولات منهجية لإعادة تأويل المواد الدستورية الحاكمة الخاصة بحقوق الإنسان عبر مشاريع قوانين تفرغ هذه المواد من محتواها وتعيد إنتاج الدولة الشمولية القامعة للحريات بشكل صريح!

لن نتحدث عن الصفقة الروسية، أو عن غرق بغداد وبقية المحافظات، لأنها نتائج عرضية للأزمة الحقيقية في طبيعة بناء النظام السياسي، وفي طبيعة بناء الدولة، التي تعكسها الممارسات المتقدمة.

فهل يمكن لأحدكم أن يقول لي ما الذي سنواجهه في العام القادم، وهو عام التمهيد لانتخابات مصيرية للسيد المالكي وصحابته والتابعين له بحسان أو بغيره إلى يوم الانتخابات؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. جمال ملاقره‌

    دکتور الکبيسي، في مقاله‌ هذا ذکر قراء ومتصفحي المدى بسياسات مالکي العلانية خلال سنة واحدة،وسيحتاج إلى تأليف کتاب سميك إن أراد تذکيرنا بکل سياسته‌ وإجراءاته‌ خلال سنوات حکمه‌ العجاف. لاشك فيه‌ إن ما يخفيه‌هو أعظم، لما يشتهر به‌ الرجل من إتباع التقيية في

  2. رحيم العكيلي

    كم انا معجب بفكرك وتحليلاتك الرائعة خصوصا تعليقاتك الرصينة والمهنية في تحليل قرارات المحكمة الاتحادية العليا . دمت مبدعا

  3. جمال ملاقره‌

    دکتور الکبيسي، في مقاله‌ هذا ذکر قراء ومتصفحي المدى بسياسات مالکي العلانية خلال سنة واحدة،وسيحتاج إلى تأليف کتاب سميك إن أراد تذکيرنا بکل سياسته‌ وإجراءاته‌ خلال سنوات حکمه‌ العجاف. لاشك فيه‌ إن ما يخفيه‌هو أعظم، لما يشتهر به‌ الرجل من إتباع التقيية في

  4. رحيم العكيلي

    كم انا معجب بفكرك وتحليلاتك الرائعة خصوصا تعليقاتك الرصينة والمهنية في تحليل قرارات المحكمة الاتحادية العليا . دمت مبدعا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

العمودالثامن: الحرب على الكفاءة

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: عراق الشبيبي وعراق هيثم الجبوري

 علي حسين اظل أكرر واعيد إن أفدح الخسائر التي تعرض لها العراق ان الكثير من مسؤوليه وساسته غابت عنهم الروح الوطنية ، واصبحت كلمة النزاهة مجرد مفردة تلوكها الالسن ويسخر منها اصحاب الشأن...
علي حسين

كلاكيت: السينما عندما توثق تفاصيل المدينة

 علاء المفرجي بغداد والسينما.. المدينة والسينما.. كيف لنا ان نختار شكل العلاقة او ما الذي يمكن ان نكتشف من هذه العلاقة؟ وهل يمكن لبغداد كمدينة ان تنفرد مع السينما فتختلف عن علاقة المدن...
علاء المفرجي

الخزاعي والشَّاهروديَّ.. رئاسة العِراق تأتمر بحكم قاضي قضاة إيران!

رشيد الخيون وقعت واقعةٌ، تهز الضَّمائر وتثير السّرائر، غير مسبوقةٍ في السّياسة، قديمها وحديثها، مهما كانت القرابة والمواءمة بين الأنظمة، يتجنب ممارستها أوالفخر بها الرَّاهنون بلدانها لأنظمة أجنبية علانية، لكنَّ أغرب الغرائب ما يحدث...
رشيد الخيون

قَدْحُ زناد العقل

ابراهيم البليهي حَدَثٌ واحد في حياة الفرد قد يُغَيِّر اتجاهه إذا كان يملك القابلية فيخرج من التحديد إلى التجديد ومن الاتباع إلى الإبداع وعلى سبيل المثال فإن هوارد قاردنر في السبعينات درَس علم النفس...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram