محمود عبد الوهاب مصادفةً، اجتذبني، قبل سنوات، كتاب باللغة الانكليزية مترجم عن اللغة اليابانية – على ما أتذكر – كتاب صغير الحجم، أنيق، ذو غلاف سميك. كان الكتاب يضمّ عدداً من أفضل ما كتبه طلاب المرحلة الأولى من الدراسة المتوسطة في دروس الإنشاء، آختارها وجمعها مدرس اللغة وضمّها في هذا الكتاب ممهداً له بمقدمة. الكتاب كان بعنوان (أصداء من مدرسة الجبل).
ما أكتبه أستقيه من الذاكرة، فالكتاب ليس بين يديّ الآن، وما اطلعت عليه كان في سنوات التسعينيات، بعد ثلاث سنوات من تقاعدي مدرساً للغة العربية واختصاصياً تربوياً لها. قد يكون لاشتغالي بالتعليم الذي قضيت فيه أكثر من أربعة عقود أثر في اهتمامي بالكتاب وإعجابي بانتباهة مؤلفه مدرس اللغة وفطنته ووعيه التربوي. كان المدرس المؤلف يضع في أعلى الورقة من كتابه اسم الطالب وسنوات عمره، ومن هنا فباستطاعتك أن تدرك، بعد قراءة ما كتبه الطالب، مستواه اللغوي والعقلي. كانت معظم الموضوعات بمستوى إدراك الطالب وحاجاته اليومية وما يدور في بيئته العائلية. أتذكر- وقد مضت سنوات على قراءتي الكتاب – أن أحد الموضوعات كان حميمياً، عبّرَ فيه الطالب عن حاجات جيرانهم أحياناً واستعارتهم بعض الأدوات المنزلية من عائلته واستبطاء العائلة استرجاع تلك الحاجات. أحسست بمرارة وأسف شديدين آنذاك : كيف لم يقع الكتاب بين يديّ حينما كنت مدرساً للغة العربية !. ولو كان كذلك لقمت بتأليف كتاب يحاكي ذلك الكتاب لأهميته التعليمية والتربوية. ولقد كنت وأنا في التعليم شديد الاهتمام بدروس الإنشاء (التعبير) محاولاً أن تكون الموضوعات بالمستوى اللغوي للطالب وإدراكه (ربما يقرأ عدد من طلابي، كبار السن الآن، هذا العمود). وقد كنت أرى أن الغاية من تدريس اللغة : أن يتعلم الطالب القراءة جيداً والكتابة جيداً، وأن فروع اللغة الأُخَر ما هي إلاّ وسائل لبلوغ تلك الغاية. استرجع الآن ماضياً بعيداً حينما كنّا طلاباً في الحادية عشرة أو الثانية عشرة، وكان يُملى علينا في دروس الإنشاء موضوعات بعيدة عن مداركنا مثل : " الزواج المبكر والزواج المتأخر. أيهما تفضل؟"، (هذا مع إجلالي للجهود التي بذلها مدرسونا في تعليمنا وتربيتنا).إنّ تنمية الخيال وتطويره أساس التعليم بتحرير الطالب من الأشكال والطرائق التي تحدّ من انتباهه وخروجه إلى عالم أرحب. تذكّرني موضوعة " الخيال " بكتاب (الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي) للدكتور شاكر عبد الحميد أستاذ علم نفس الإبداع، في أكاديمية الفنون في القاهرة، فقد أفرد الدكتور عبد الحميد فصلاً خاصاً بـ (التربية والخيال) مؤكداً أنه ينبغي لنا أن نكشف الخيال السائد لدى تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات ونعمل على تطويره وإنمائه وأن نحررهم من الأنماط والقوالب الجامدة لتكوين بُنى معرفية ناشطة، فقد يتمتع الطالب ذو العقل الساكن أو الراقد بالمعلومات المدرسية ويحصل على أعلى الدرجات في الامتحانات، لكنه يبقى حبيس قفص معلوماته لا يضيف إليها شيئاً " أما الطالب المحلّق فهو مثل طائر حرّ يجتاز الفضاء ومملكته الكون كله ". ليس الخيال عنصراً مستقلاً عن المعرفة إنما هو العقل في أكثر حالاته قوة وإثارة كما يقول (وردزورث)، وهو أيضاً بنية (وراء معرفية)، تحوّل اللامرئي إلى مرئي. وأخيراً فإن المعرفة ينبغي لها ألاّ تجعل من صاحبها (مرآة)عاكسة لما يوجد أمامها دونما إضافة وإنما ينبغي لها أن تجعل من صاحبها (مصباحاًُ) مُشعاً يعـيد إنتاج المعرفة إبداعياً. بعد كل هذا، فإن كتاب (أصداء من مدرسة الجبل) يعدّ كتاباً تطبيقياً لتربية الخيال عند الناشئة، وللسبب نفسه كان تأثيره في نفسي شديداً، ورغبتي في تأليف كتاب يحاكيه لا تتاح لي اليوم. أملي أن يجهد أحدُ مدرسي اللغة نفسه في تأليف كتاب مماثل محققاً بذلك إصداراَ نوعياً في الخيال التطبيقي.
مدرسة الجبل
نشر في: 6 أكتوبر, 2009: 06:53 م