فاضل السلطانيمن اين تنبع قيمة الراحل الكبير ادوارد سعيد، نعتقد انها تنبع من المصدر نفسه الذي غذى الاسهامات الكبرى في تاريخنا الحديث، الحفر في اعماق الشخصية الانسانية في المكان والزمان، في المكان الذي كان يتنقل مع ادوارد سعيد من القدس حتى القاهرة الى كولومبيا،
والزمان الذي فلت من بين يديه حين غادر تلك السماء الاولى، واخذ يهدده منذ منتصف التسعينات ممثلا بالمرض الرهيب.لكن صاحب "تأملات في المنفى"، استطاع، مثلما استطاع غيره من الشخصيات الكبيرة، وهذا سر كبرها ايضا، ان يسيطر على العنصرين سيطرة ذهنية عبر التأمل وسبر اغوارهما في اعمال تنتمي الى التاريخ كله، اكثر من انتمائها الى مكان وزمان معينين.ولم يكن سفره الكبير "الاستشراق" مهما اختلف المرء مع بعض طروحاته، بعيدا عن هذا المعنى، ولم يكن "خارج المكان" سوى تأمل عميق في معنى هذا المكان للسيطرة عليه، واستخراج مغزى منه هو مغزى شخصياتنا ووجودنا.من هنا كان سعيد، في الوقت نفسه، منفيا ابديا، مثله مثل جوزيف كونراد. وقاده الاحساس المعذب بنفيه الى البحث الدائب عن شخصيته الحقيقية التي قسمت، بشكل لا انساني، بين "هنا" و"هناك"، مثلما قسمت شخصية الوطن الى قسمين.يروي لنا في "خارج المكان" بأنه لجأ الى الاطباء النفسيين في مرحلة مبكرة من حياته ليعرف اين تكمن شخصيته الحقيقية، واين يختفي مكانه.ومع ذلك، استطاع سعيد امتلاك الاثنين فيما بعد امتلاكا ذهنيا، اتاح له انتاج كتاباته وتأملاته الخلاقة، والقى به في محيط انساني فسيح، فضاؤه وجغرافيته هما الانسان. ولا بد ان يقود كل ذلك الى موقف نقدي لا تحركه، غالبا، الاهواء. وهكذا كان ناقدا لاذعا لما يجري في ارضه الاولى فلسطين، بالحدة نفسها التي كان فيها ناقدا لما يجري في وطنه المتبنى: اميركا. وهذه الحدة سببت له مشاكل كثيرة في الحالتين الفلسطينية والاميركية، لكنها كانت ربما سلاحه، فهو لم يستطع ان يكون ناقدا اكاديميا يطل على المشهد الساخن من فوق بأدوات المحلل المجردة، بل كان في قلب هذا المشهد روحيا وجزءاً منه وضحية له ايضا. ومع ذلك، كان خارجه ايضا ذهنيا، مما اتاح له رؤية مبكرة لما كان يحصل وسيحصل وخاصة في الساحة الفلسطينية، ومن هنا، كان افتراقه عن سياسات القيادة الفلسطينية، واشهاره هذا الافتراق على رؤوس الملأ.وفكريا، كان الجوهر نفسه وراء اعماله التي شغلت الغرب اكثر ما شغلت الشرق، ليس على المستوى الاكاديمي فقط، وانما على المستوى الشعبي ايضا. واعتقد ان الشعبية التي يتمتع بها هنا في لندن، تفوق شعبيته في اي مكان عربي آخر. فما ان يعلن عن اشتراكه في ندوة او محاضرة، حتى تنفد التذاكر قبل فترة طويلة. وليس سهلا بالطبع ان يعرف مثقف موسوعي مثل ادوارد سعيد ان يصل الى اكبر عدد من الجمهور. ولكن ليس من الصعب ان نعرف سر ذلك: ان القضايا التي تشغله هي القضايا نفسها التي تشغلنا جميعنا: مكاننا في هذه الارض وعذاباتنا المشتركة كبشر، ومصائرنا الغامضة في كون يمزق نفسه بنفسه، ويقتلع أبناءه مكانا وزمانا.
إدوارد سعيد.. رجل من عصرنا
نشر في: 9 أكتوبر, 2009: 03:58 م