شاكر لعيبيالحوار الأخير، في الغالب، الذي أُجريَ مع هنري ميشونيك (17 أيلول 2009)، يحفّز المرء على مراجعة بعض ما في مكتبته عن هذا الشاعر والباحث الجاد (وهما صفتان منبوذتان متجاورتان في ثقافة العرب المعاصرين) لسبب بعيد يتعلق أيضاً بالشعر العربي.
مثلما يجد ميشونيك الإيقاع في كل ضرب من الكتابة الأدبية، سواءً كانت نثراً أم شعراً، فإنه يفرِّق بين القصيدة والشعر. في كل نصّ وفي كل خطاب ثمة إيقاعٌ. الخطاب هنا مصطلحٌ جامعٌ. الإيقاع ذو طبيعة شخصية في جميع الأحوال، ويكاد عمل ميشونيك (نقد الإيقاع) 1982 ثم (رسالة الإيقاع) 1998 – بالاشتراك مع جيرار دوسون- أن يقول بأن الإيقاع يمتلك خصوصية مثل حركات تنفُّسنا التي تختلف بين شخص وآخر. وهو حاضرٌ في القصيدة والرواية والمسرح وكل كتابة. يُعالج الكتاب منهجياً نظرية الإيقاع في اللسان وأهميته. الإيقاع اللغوي هو حجر الزاوية، وهو تنظيمٌ لحركة الكلام في الكتابة بطريقة ليست بالضرورة عروضية أو وزنية. لقد قادته ترجمته للكتاب المقدس الذي لا يفرّق بين النثر والشعر إلى فكرة الإيقاع المستند إلى "لكنات الاستدراك والربط" التي تُنظِّم إيقاع كتابة النصوص العبرانية. وهذه في الحقيقة، بالقدر الذي تتعلق القضية بثقافتنا العربية، سمة مشتركة بين "اللغات السامية"، ومنها اللغة العربية بشقها الشفاهيّ طويل المدى والكتابيّ ثم تصويتاتها الفردانية أثناء القراءة على نحو جليّ حيث لا تفريق مثابر بين الشعر والنثر، خاصة في العصور الأولى. من نافلة القول أن يرى ميشونيك الإيقاع موضوعاً للقصيدة، أي تنظيماً عروضياً- إيقاعياً للنص لكنه يراه أيضا بصفته أرْخَنة لعملتي الكتابة والقراءة المتلازمتين. تبدو المسألة شديدة الصلة باستخدامات الإيقاع في اللغة العربية، إذا لم نتكلم عن التاريخ الأدبي البعيد الذي يمكن أن يزوِّدنا بحصيلةٍ وفيرة عن عملية الاستدراك والربط الإيقاعي في الكتابة عبر الرَّوِيّ أو عبر التنفس فحسب أو عبر عمليات كثيرة أخرى لا علاقة لها كلها بالوزن العروضيّ، وهو أمر لعل نقاد الأدب العرب القدامى أدركوه بطريقة واضحة. من جهة أخرى، بإمكاننا أن نتحقّق من التالي: في نطق اللهجات واللكنات العربية يمكن أن تكون جملة واحدة، عبر فاصلٍ أو رابطٍ صوتيين، ذات إيقاعين مختلفين بالتمام. ولعله من البديهي تماما أن يختلف إيقاع هذه الجملة اللغوية نفسها في اللهجة المصرية مما هو الحال في اللكنات البدوية أو الشمال أفريقية. بل أننا قد نستمع إلى قراءات متعددة للقصيدة ذات الوزن الواحد من طرف الراسخين في "إيقاعات لهجاتهم"، ونتوصّل إلى إيقاعات شتى. بأماكن وفيرة تتقاطع تحليلات ميشونيك للإيقاع الطالعة بالأصل من تجربة الترجمة من لغة "سامية"، مع معارف النقد العربيّ الكلاسيكيّ الغنيّ المنحنيّ بتعمّق على لغة العرب التي ليس ضروريا التذكير أنها من العائلة نفسها.وعوداً إلى الحوار المترجَم فإن ميشونيك يذكر لمحاورته: "كلمة شعر ـ وهذا ما خصّصت له كتاباً وسمته بـ"احتفالاً بالشعر" ـ تحمل خمسة أو ستة معان مختلفة. وعليه فنحن لا ندري أننا عندما نستعمل هذه الكلمة "شعر"، نقول خمسة أو ستة أشياء في ذات الآن؛ [...] في حين أنني إذا تحدثتُ عن القصيدة أو القصائد فإنّما أتحدّث عن شيء محسوس. إن الشعر كلّية، ويمكن أن يكون أشياء كثيرة: معنى الشعر الأكثر حسّية هو ما أسمّيه "كمّية": الشعر الأسباني، الشعر الفرنسي، الشعر الإيطالي، شعر القرن السادس عشر، شعر القرن العشرين؛ فهو مجموع القصائد التي كُتبتْ [..] ماذا تعني كلمة شعر؟ أقدّر أنّ ذلك يجري خارج كلّ التعريفات الثقافيّة والشكليّة التي تقوم على الخلط بين الشعر وأبيات الشعر: إنّ مردّ البيت إلى الوزن، فهو تقنين شكليّ. وليس ثمّة أكثر سوءاً من الخلط بين الأبيات والشعر. لقد كان فيكتور هيغو يعرف هذا، وهو القائل: "لا أحبّ بيت الشعر، إنّما أحبّ الشعر" فإذا كنت تترجم رواية لبلزاك أو فصلا لهيجل، فإنّك تترجم قصيداً، لأنّي أسمّي قصيدا كلّ ما يغيّر الفكر، وهذا لا علاقة له بتعريفات الشعر الشكليّة: السونيتة (قصيدة من أربعة عشر بيتا) شكل البيت، إلخ… أنا أعرّف القصيد من حيث هو شكل حياة يغيّر اللغة وشكل لغويّ يغيّر شكلاً من أشكال الحياة. الروايات العظيمة، هي روايات لأنّها تحمل قصيداً في مطاويها. الآثار الفلسفيّة العظيمة يجري فيها القصيد هي أيضاً. وإذ أعرّف الشعر على هذا النحو، فهذا يفضي بي حتماً إلى نقد التعريفات الشكليّة" (ترجمة منصف الوهايبي). القصيدة محسوسة والشعر كلية إذنْ. درس ميشونيك الأخير مهم للغاية، في يقيننا، في اللحظة الشعرية العربية الراهنة. فهو لا يتحدث عن (الشاعرية) و(الشعرية) لكن عن التعريفات الشكلية للشعر التي يرفضها بالتمام والتي تزدحم بها الكتابات النقدية العربية في الآونة الأخيرة بمناسبة قصيدة النثر. راجع السجالات عن السطر والكتلة والسرد والإيقاع الخطي والمرجعية المتضخِّمة لكتاب سوزان برنارد وما إلى ذلك. هل يمنح السجال لدينا اهتماماً صافياً بالشكلا
تلويحة المدى: درس ميشونيك: الفرق بين القصيدة والشعر
نشر في: 9 أكتوبر, 2009: 04:50 م