TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > قناديل: سنوات الجنون في شارع بلفيل.. (أيام باريسية)

قناديل: سنوات الجنون في شارع بلفيل.. (أيام باريسية)

نشر في: 10 أكتوبر, 2009: 04:40 م

لطفية الدليمينلتقي في أحد أشهر  مقاهي  حي بلفيل - أصدقاء ومعارف،انا وصديقة عراقية فرنسية وجوزفين السوداء المتزوجة من الماني – فيتنامي والتركية الماركسية كيولي وابنتاها أو مع كيكو اليابانية التي  تحدثني عن (هاروكامي)  وزوجها الايطالي روبرتو، هنري جوليان مدير أحد المسارح،
أوغوستين  الوجودي  صاحب مكتبة  تطل على ركن الشارع، نلتقي  مصادفة او على موعد  مع بعضهم   في مقهى Aux Foleis)أوفولي) أي مقهى المجانين بالفرنسية، نحتسي قهوة الأسبريسو القوية  أوكوكتيل  الغروغ الساخن  بالتوابل والعسل والليمون نتدفأ به في جلستنا  على الرصيف  تحت المظلات او بدونها  نتلقى دعابات المطر و لسع الرياح الباردة  ونغرق في فوضى اللغات التي تتناثر حولنا من  أصوات العابرين أو ننصت لأغاني  اديث بياف  يبثها جهاز الموسيقى في المقهى  العتيق الذي كان بين الحربين مسرحا صغيرا ومطعما  تغني فيه اديث بياف. الندل  جزائريون قبليون، بهم ظرف فاتن وبعض سخرية لاذعة، يحتفون بي وبصديقتي، يقدمون لنا طلباتنا محفوفة بترحاب  دافىء يميز حيَّ بلفيل المختلط، فهنا تتجمع غيتوهات مغاربية وصينية وعربية مشارقية  وتركية وافريقية سوداء، ويشكل حي بلفيل  برجَ بابل من أجناس ولغات وملامح وأزياء و ثقافات هجينة، وفي المقهى تموج ظلال  متراقصة من سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى وما رافقها من حراك ثقافي رافض، وبيانات ساخطة، وأزمات اقتصادية، أصغي في مقهى(أو فولي) إلى إديث بياف تغني الحياة وتمجد الحب وتهجو الحروب بصوت حزنها الأسود ولوعتها ونبرتها الحافية، هنا كانت تجوب الشوارع والمقاهي تغني  للنساء والرجال الذين اكتووا بنيران الحروب، جائعة ومشردة تنتقل من مقهى إلى مقهى وتنشد: (كل شيء يمكن أن يتهاوى، الأرض والجبال والشجر والمدن، الحب وحده يلبث في الأعالي). كان أول ما رأيت من إديث بياف، قبرها في مقبرة (بير لاشيز) وباقات زهور لايزال محبوها الأوفياء يضعونها في صباحات الذكرى على قبرها، ترقد بين العظماء في أضرحتهم الرخامية محفوفين برقرقة النوافير وشذا الأزاهير وشدو الطيور، هنا أوسكار وايلد ولافونتين وبلزاك ومارسيل بروست وإيف مونتان وجان كوكتو وغيرهم من سكان الأبدية.. في مقهى(أو فولي)  يحفظون صورها وأغانيها ويطلقون  ظلالها  على مساءات المقهى فتفيض شجنا، عادةً  مايرتاد المقهى رسامون وشعراء ومفكرون هامشيون هاربون من المظاهر المترفة لمقاهي وسط باريس في السان جيرمان والسان ميشيل والشانزليزيه وعلى مسافة كيلومتر من المقهى يقع مقر الحزب الشيوعي المعروف بمبناه الحداثي والكرة الرخامية العملاقة في حديقته وهنا كان التروتسكيون والفوضويون أسياد الشارع ومحرضي الهامش واليسار المتطرف، يقول أحد الندل: (الفنانون الهامشيون أطلقوا على المكان اسم مقهى المجانين بعد الحرب الاولى) تلك سنوات الزلزلة  التي عُرفت بالترف المفرط والتحلل والجنون واللهو والبيانات الفنية والشعرية الغاضبة، وفي تلك السنوات كان المثقفون يقودون أمزجة المجتمع، تاركين بصماتهم على تفاصيل الحياة اليومية والأمكنة العامة والمقاهي والحانات والازياء،  وفي تلك الحقبة المجنونة  أطلق (اندريه بروتون) بيانه السوريالي الشهير سنة 1924..تغير الزمان والبشرغير أن الفنانين والبوهيميين لبثوا يلتقون في مقهى (أو فولي) فتراهم منهمكين بالكتابة، أو تخطيط  السكتشات، أو تدوين الموسيقى، يتبدل الرواد والزبائن وتبقى بياف  وحدها  تذكّرنا بعبورها الساطع  لوحتان إعلانيتان تزينان واجهة المقهى تبقتا من ذلك العصر تحملان صورها مع مشاهير أمثال: صديقها الشاعر جان كوكتو، وموريس شيفاليه، وعلى مبعدة خمسمئة متر  من المقهى  صعودا في شارع بلفيل المرتفع، نجد لافتة صغيرة مثبتة على جدار مبنى متهاو يحمل الرقم 72: هنا وُلدت إديث بياف في 1915..في هذا الشارع  القيامي  المجنون، يشكل الصينيون أغلبية مهيمنة، فهنا مطاعمهم وأسواقهم وموسيقاهم ونواديهم ومصارفهم، يليهم الأفارقة وعرب شمال إفريقيا والسوريون والمصريون، والكل يعرف أين ولدت العصفورة (إديث بياف)، ويعرف أين كانت تغني كأنها لاتزال تحيا بينهم، تمر أمام مقهى  آخر، فتسمع أغنية باريس التي غنّتها بعد  تحرير مدينتها من الاحتلال النازي، أو ترى ملصقات من سنوات الستينيات لأيقونات عالمية مثل غيفارا، والمغني جيم موريس يتوسطهما وجه بياف ونظرتها الليلية  تطلّ على العالم من علياء حزنها الذهبي..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram