محمود عبد الوهاب ينفي عدد من الكتّاب أن تكون لهم طقوس وعادات معيّنة يخضعون لها ساعة الكتابة، ويفوتهم أنّ تحررهم من تلك الطقوس والعادات ، ما هي إلاّ طقوس وعادات أيضاً لكنّها مغايرة في الأنماط ، فالتزام طقس ما أو التحرر منه كلاهما اشتراط مُلزم لصاحبه ساعة الأداء ،
ومهما اختلف طقس الكتابة في شدّته أو تحرره فلابدّ من حافز يستغرق ذات الكاتب /المبدع يحمله على عزلة " مكانية " أو " نفسية " تتمثل بها ذاته بوحاً في جسد نص يكتبه . تُصوّر الدراسات المتخصصة بالإبداع الكاتب ، وهو يهيئ أوراقه وأقلامـه وأدواته ، مثل الطفل الذي يهيئ ألعابه ليختلي بها ساعة لهوهِ ، وترى تلك الدراسات أيضاً أن ما يبدو من انشغال الكاتب وهو يتهيأ للكتابة ، ويتنقّل بحركاته من سدل ستارة نافذة غرفته أو فتحها أو ترتيب بعض أوراقه على المنضدة ، أو تعديل وضع كرسيّه ، ما هي ، في حقيقتها ، إلاّ إحدى حيل اللاشعور حيـن لم يُمسك الكاتب بعد بدايــةً مُرضيَة لاستهلال نصه . وعلى الرغم من مقولة " موت المؤلف " التي تؤكد دراسة النصوص بمعزل عن حياة كتّابها ، فإن عدداً كبيراً من الكتب المكرّسة للحوار مع الكتّاب والمبدعين تتضمن أسئلةً حول الأجواء والطقوس المفضّلة لديهم ساعة الكتابة ما يدل على أهمية معرفة طقس الكتابة عندهم ، ومن تلـــك الكــتب المهمة فـــي هذا الحقل كتاب WRITERS AT WORK الذي جمع حوار صحفيي (باريس ريفيو ) مع أولئك المبدعين ، والذي أصدرته مؤسسة MERCURY BOOKS في لندن عام 1962 وترجمه إلى العربية كاظم سعد الدين عام 1986 ، وكذلــك كتاب فـؤاد دوّارة بعنوان ( هكذا كتبوا ) الصادر عن الدار المصرية للتأليف والترجمة عام 1966 وكتب أُخر تناولت الموضوع نفسه ، وإن دراسات سوسيوثقافية وسيكولوجية اتخذت من حياة الكاتب نَوْلاً تلتفّ حوله خيوط حياته تفسيراً وتأويلاً عبر التأثير والتأثّر، يكون فيها طقس الكاتب عنصرَ الدراسة وإضاءةً معرفيةً لكينونة النص ونشأته ، لا في مخيلة الكاتب/ المبدع وحدها ، بل تحت سطوة طقوس الكتابة أيضاً . كما ويأتي مصطلح " قصّ القصّ " الذي جاء به " توماشفسكي " تعبيراَ عن طقس الكاتب وهو يعرض الجوّ الذي تولّدَ فيه النص وكان سبباً وحافزاً إلى كتابته ، فـ ( ألبرتومورافيا ) مثلاً حين يسترجع روايته " إمرأة من روما " إنما يعرض أحد طقوسه في كتابتها حينما يقول إن ( امرأة من روما ) لا علاقة لها بحياة المرأة التي التقاها في روما ، وإنه كتبَ الرواية بعد عشر سنوات من ذلك اللقاء ، ويقول( مورافيا ) أيضاً : حينما يبدأ الكتابة ويجلس إلى طاولته يجهل ماذا سيكتب ، وكيف ستكون روايته ، ويبقى أحياناً بانتظار " الإلهام " الذي يعتقد بمجيئه ليبدأ عمله الذي يستغرق أربع ساعات يومياً من كل صباح ، وعلى العكس من مورافيا فإن للروائي الكبير نجيب محفوظ نظاماً صارماً للكتابة ، فهو يقضي ساعات منتظمة كلّ يوم في الكتابة ، ويُعدّ قبل كتابة رواياته في " الثلاثية " مثلاً ملفات خاصة بشخصياتها يرجع إليها كلّما استدعت الضرورة ذلك . كتابة ماركيز وبورخس ويوسَا ونجيب محفوظ وطه حسين وتوفيق الحكيم وآخرين سيَر حياتهم إنما هي إضاءة للجانب الذي يجهله القارئ من طقوسهم وعاداتهم في الكتابة.كتابة السيرة والمذكرات والاعترافات هي ، في جوهرها ، بوح بالعوامل والأسباب والحوافز التي جعلت من هؤلاء الكتاب الكبار أعلاماً في الحياة الثقافية ، وغالباً ما تتضمن تلك المؤلفات عادات الكتابة وطقوسها. أتذكر هنا أستاذنا الكبير علي جواد الطاهر في إحدى زياراتي له ، إذْ كان يكتب على طاولة صغيرة وخلفه منضدة أنيقة تغري بالكتابة ، وكان الصديق الروائي مهدي عيسى الصقر يفضّل الكتابة في المطبخ الأنيق وسط أدوات المطبخ وقرقعة القدور . قال لي الصديق القاص محمد خضير حينما سألته عن الكيفية التي يكتب فيها: إنّه لا يُلزم نفسه بزمن معين ساعة الكتابة ، لكنه غالبا ما يلتزم بالمكان الذي يفضّله وهو بيته ، وربما غرفته الخاصة. لستُ هنا داعياً إلى قراءة النصوص في ضوء حياة كاتبيها ، فالنص ينبغي أن يُقرأ بمعزل عن سيرة صاحبه ، لكنني أرى أنّ تلك الطقوس إذا ما كتبت ، فهي نص آخر يخضع إلى الدرس السوسيوثقافي أو النقد الثقافي ذاته الذي يُعنى بموضوعة الثقافة وطرائق إنتاجها عبر حافزها الضمني : طقس الكاتب .
اوراق:طقس الكاتب
نشر في: 13 أكتوبر, 2009: 06:22 م