في تقرير السفير البريطانيكان من المتوقع في العراق ان يكون عام 1953 مرحلة تحول خطيرة في تاريخه. ففي ذلك العام كان الملك فيصل الثاني سيبلغ سن الرشد، ويتولى سلطاته الدستورية، وبذلك ينتهي عهد الوصاية الذي دام اربعة عشر عاما، ويزول نفوذ الوصي على العرش الامير عبد الاله الذي كانت تعزى اليه مساوئ الوضع السياسي،
والذي كان الاعتقاد السائد ان سيطرته على الحياة السياسية في العراق، ونزواته، واحقاده، من اهم الاسباب التي تعرقل كل حركة اصلاحية في البلاد.وبعد ان يئس الساسة، وعجزت الاحزاب، عن الحد من نفوذ الوصي الذي تزايد من يوم لآخر، تركزت آمالهم في انتهاء عهد الوصاية الذي بات قريبا، وصاروا ينتظرون تسلم الملك الشاب فيصل الثاني سلطاته الدستورية بعقلية جديدة، وروح جديدة، عسى ان يفتح ذلك في تاريخ العراق صفحة جديدة تكون خالية من ترسبات عهد عبد الاله، وعلاقاته، ومطامحه، ومعتمديه. ولكن ذلك الامل صار يضعف، بل تبدد بعد تسلم فيصل الثاني سلطاته، وظهر ان الامير عبد الاله ـ الذي كان وليا للعهد ايضا ـ لا ينوي الانسحاب من المسرح السياسي بعد انتهاء دوره، وان تأثيره على الملك الذي تولى تربيته ورعايته منذ طفولته، وكان له بمثابة الاب بعد مقتل ابيه وهو في سن الطفولة ـ كان كبيرا بدرجة لم يكن في مقدور الملك الشاب، قليل الخبرة، الخجول، التخلص منها.وكان فيصل الثاني شابا انيس الطبع، رقيق الحاشية، ولكنه كان يفتقر الى قوة الشخصية، وصفات الزعامة التي كانت لدى ابن عمه الملك حسين، وكان في مثل سنه حين اعتلى عرش المملكة الاردنية الهاشمية في الوقت نفسه تقريبا، وفي ظروف اكثر صعوبة، فأظهر جدارة وشجاعة ونضجا يفوق سنه كثيرا. واذا نظرنا الى الامور نظرة موضوعية، وقد ابتعدت الاحداث اكثر من ثلاثين عاما، نجد ان تصرف الملك فيصل لم يكن خاطئا من حيث المبدأ، فقد كان لا يزال صغير السن، عديم التجربة، ولا يعرف الكثير عن سياسة البلاد ولا شخصيات رجاله، وقد نشأ وهو ينظر الى خاله كمرشده ومربيه، وكان عبد الاله على رأس الدولة فعليا لمدة اربعة عشر عاما، ومرت به تجارب متنوعة، وقد خبر الرجال والأحداث، فكان من الطبيعي ان يستفيد الملك من خبرته، ويستشيره في الامور، الى ان يستطيع الاعتماد على نفسه ويمارس مسؤولياته بما تكون لديه من خبرة، وما يحمله من افكار جديدة، وينسحب الوصي تدريجيا. ولكن العراقيين كانوا قد ملوا حكم عبد الاله بسياساته، ولذلك صاروا ينتظرون انتهاء عهد الوصاية بفارغ الصبر وجعلهم شعورهم هذا يتصورون ان الوصي سيختفي من الميدان في اليوم التالي لتتويج الملك، ولذلك كان استمرار نفوذه مبعث خيبة كبيرة لهم. والواقع ان الامير عبد الاله لم يظهر منه ما يدل على انه ينوي الانسحاب من الميدان، والتخلي عن التدخل في شؤون الحكم، حتى بصورة تدريجية. وكان بعد ان اصبحت صفته "ولي العهد" فقط ـ حيث لا يحمله الدستور اية مسؤولية، ولا ينيط به اي واجب ـ يداوم في البلاط يوميا مع الملك. وكان مكتبه في غرفة مقابلة لمكتب الملك. وكانت تعرض عليه كل قضية تعرض على الملك، ولا يجرؤ سياسي ولا مسؤول ان يقابل الملك دون مقابلته ايضا. بل كثيرا ما كانوا يستأذنونه في مفاتحة ا لملك في امر من الامور، او عرض اقتراح ما عليه، وكأنه لا يزال وصيا عليه. ولم يكن الملك ليحضر مناسبة رسمية، او يفتتح البرلمان (مرتديا بزته الرسمية)، او يدشن مشروعا جديدا، او يقوم بزيارة، او يعقد اجتماعا بوزرائه وبغيرهم، الا كان ولي العهد الى جانبه (مرتديا مثل بزته)، لا يفارقه وكأنه ظله. كما ان الملك نفسه لم يكن يبت في امر من الامور، ولا يوقع مرسوما، ولا يتخذ قرارا مهما او تافها، الا بعد استشارة خاله، حتى اصبح ذلك قاعدة عامة، تراعى بدقة، ولا يمكن الخروج عليها، وان لم يكن لها اي مبرر في الدستور. ومن الانصاف ان يقال ايضا، ان المنافقين والمتزلفين من ساسة ذلك العهد، ومن الذين كانوا يعتمدون على دعم عبد الاله ويستمدون منه نفوذهم، يتحملون قدرا من المسؤولية في ذلك الموقف. فقد اخذ بعضهم بقصد التقرب من الامير، واظهارا لولائهم له، يسمعونه ما يرتاح لسماعه ـ وذلك شأن كل بطانة لا تحرص على المصلحة العامة ـ ويحسنون اليه الاستمرار في الاشراف على امور المملكة من وراء ستار، لئلا يغرر بالملك اليافع مغرر، او تحاول جهة ما توجيهه وفق اهوائها، حتى ادخلوا في روعه انه لو ترك الملك وشأنه لاضطربت امور البلاد، ولتقاذفت الامواج سفينة الدولة في تلك الظروف الحرجة التي يجتازها العراق والعالم العربي. وكانت ثورة 23 تموز (يوليو) في مصر قريبة العهد، ومصير فاروق ماثلا للعيان، والعرش بحاجة الى "حكمة" الامير وتجربته الطويلة في الحكم.وقد حاول بعض العقلاء من رجال السياسة وزعماء الاحزاب اكثر من مرة، انتهاز فرصة غياب الامير عبد الاله عن العراق، فاجتمعوا بالملك بمفرده، ونصحوا له ان يمسك بزمام الامور بيديه، واوضحوا له ما يؤدي اليه استمرار سياسة الامير عبد الاله من نتائج قد تكون وخيمة، فلم يجدوا من الملك اذنا صاغية، ورأوا انه لم يكن قادرا على التخلص من نفوذ خاله بسهولة، او لم تكن لديه الشجاعة الكافية لذلك. وكان نوري السعيد نفسه غير مرتاح لسياسة عبد الاله في السنوات الاخيرة، وكان بي
من اوراق نجدة فتحي صفوة..العراق عام 1953
نشر في: 18 أكتوبر, 2009: 05:44 م