اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > خارج العاصمة: شـــظايا الســـــرد

خارج العاصمة: شـــظايا الســـــرد

نشر في: 19 أكتوبر, 2009: 06:42 م

محمد خضير ألحقني الآخرون بهذه المهنة، وودت مع نفسي أن أكون سارداً لأفعالي دون غيرها. يبدأ يوم السارد من عقدة طرق تجواله، وينتهي بتدوين خلاصات سردية عن جولاته في دفتر اليوميات حتى موهن الليل، فيرتب حينئذ أدوات عمله على منضدة الكتابة، ويأوي إلى فراشه.
تؤلف أفعال السارد تقويماً سردياً يومياً، تمريناً يضبط سير خطواته المسرعة أو المتمهلة: تبضّع حاجات البيت، تفقّد صندوق البريد, ملء خزان الماء، إيقاف زحف خيط النمل من مستعمرة الحديقة، الإنصات للمذياع, مشاهدة نشرة الأخبار الرئيسة على التلفزيون، قراءة صحيفة، الردّ على الهاتف, تدخين سيجارة أو احتساء قدح شاي عدا عن تناول وجبات الطعام وتفريغ القمامة. أما المطالعة في كتاب، فهي من الأفعال فوق الاعتيادية. الأفعال ترتّب الأقوال، التجوال قبل العودة إلى البيت والجلوس إلى منضدة الكتابة. القدم تسبق اليد إلى مواقع السرد. النظر والسماع والملاحظة الشفوية والتحريرية، ثم تنظيم المعلومات في نصّ. الكلمات تأتي في الآثار، الأشياء والأسماء بعد اختبار الأفعال، لكن السارد ما أن يسجّل محصولاته السردية اليومية حتى يهمل التفكير في مثل هذا الترتيب. وإذ تتكرر الأفعال نفسها يوماً بعد يوم، وتتجمع في طريقه مثل تلال النفايات, يركلها فيشتتها في زمان الكتابة، باحثاً عن مسرد حقيقي لا يتكرر مرتين في طريقه المعتاد، وقد يعود فيجمع ما فرّقه البارحة من تفاهات الأيام المتجمعة حول نواة النص ويعمل على تنقيتها واستعمالها في نص آخر.يسمع السارد صوتاً مكتوماً من داخل الدار يعنّف ابنه الأصغر:((انظر ماذا فعلتَ أيها السخل الوسخ!)). يتذكر هذا الصوت الموروث من جدّته، المتوكئة على مسجر التنور، محذرة الأطفال من سخل أرعن، يوم كانت العائلة تملك قطيعاً من الماعز في حوش الدار الخلفي. صنعت الجدّة، قبل وفاتها، دمية من شعر الماعز وعلّقتها فوق سرير الطفل الذي سيغدو سارداً لأفعالها. شظية من ذكرى الجدّة دخلت في ذيل خلاصات اليوم المنصرم، كما اجتذبت الشظية أفكاراً عن تناسخ الملامح وتوارث الصفات في تاريخ العائلة. يكمّل دفتر ملاحظات السارد دفاتر بروست وكافكا وماركيز الناقصة. ولا أعرف سارداً غير ماركيز نشر مقالات عن تجارب سروده في كتاب خاص عنوانه (غريق على أرض صلبة). ويختلف دفتري عن دفاتر السرد الأخرى في أنه يحتوي على شظايا متفرقة، شظايا فوق شظايا، ودفتر إثر دفتر، أُطعمُها النيران غير آسف، ولا يمنعني هذا المصير المحتوم من تدوين شظايا أيامي، مغذياً جوعي السردي بأمثال هذه الشظايا المتوارية تحت الطبقة الرقيقة من أدمة الواقع السعفاء: قال الصغير لجدّته:((سقطتْ أمي في النهر عندما قفزت من الزورق إلى الضفة. لقد فرحتُ كثيراً لأنها كادت تغرق)). أخطا الصغير حين خلط في مشاعره تجاه أمه، فقال ((فرحت))  قاصداً معنى  ((جزعت)). أين تتسرب الكلمات؟ أقرأ صفحات من كتاب ثم أطبقه وقد سرى إلى رأسي النعاس. أين يذهب الأشخاص المسجونون بين دفتيّ الكتاب؟ سأعود إليهم في الليلة التالية وأحررهم من سلاسل الكلمات ونستمر في رحلة القراءة. ينحلّ خيط حذائي، أقف وسط الزحام على رجل واحدة وأعقد الخيط، أُهبط القدم المرفوعة ثم أواصل السير. حركة أخرى، جملة حركات، ما أكثر وقفات المسير في الزحام. المرساة الكبيرة فُصلتْ عن السفينة، وتُركت على الساحل. السفينة سُحبتْ إلى حوض التصليح. من دفتر روب غرييه: ((إنني محظوظ لأن أعدائي يتجددون)).     يكتفي السارد بما حصل عليه من جولته اليومية، وقبل أن يأوي إلى فراشه، يرتب لوازم الكتابة على منضدته: حاوية أقلام, منفضة سجاير، قصاصات صحف, معزاة خزفية يستعملها ثقالة (تذكره بماعز جدته)، وأخيراً دفتر الملاحظات إلى جانب معجم (مختار الصحاح) الذي استقرت رتيمته على مادة ((خرم)), قلّة من الكتب لم تتزحزح عن مكانها فوق المنضدة، منها كتاب (الأعلام العربية) لإبراهيم السامرائي. يعتقد الأقدمون بسرّ الخلود الكامن في الاسم الأصلي فيخفونه وراء أسماء وهمية مستعارة. لكن السارد ـ الذي استعان بكتاب الأعلام للسامرائي ـ لم يعثر على اسم (بلاسم) في تسمية غير العراقيين أطفالهم. يسكن السارد هاجسٌ يقيّد اختياره أسماء شخصيات قصصه، وقد عثر في الاسم (بلاسم) على قناع لمجهوليته السردية التي فضحها المتطفلون، وظلاً لاسمه الحقيقي، وكان بودّه لو أن شخصياته كلها تخفّتْ وراء أسماء مستعارة للحفاظعلى خلودها في الأذهان. وبهاجسه حول الأسماء سأختم يوم السارد بهذا المسرد التقويمي: عندما استسلم السارد إلى النوم، حلم بهذا الحلم: كان يسير في شارع عريض اعتاد أن يطرقه في أمسيات الصيف على مهل، متمعناً في نوافذ واجهة الثانوية المركزية المطلة على الشارع. ابتُنيت الثانوية عام 1925، وكان يتطلع إليها علّه يحدد غرفة الدرس التي أنهى فيها دراسته عام 1959. في تلك الأمسية أحس السارد أنه متبوع بحفنة نساء دلّه عليهنّ لغطهنّ المتسارع وظل عباءاتهنّ الزاحف مثل غيمة سوداء. ولكي يديم السارد المسافة التي تفصلهنّ عن ظهره، تحكّم في مشيته، وتحسّب لخطوه، بأسلوب من يجيد الاستتباع والملاحقة، ويفرش المسافات بالخواطر المتبادلة بين ال

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

طقس العراق.. أجواء صحوة وانخفاض في دراجات الحرارة

أسعار صرف الدولار تستقر في بغداد

تنفيذ أوامر قبض بحق موظفين في كهرباء واسط لاختلاسهما مبالغ مالية

إطلاق تطبيق إلكتروني لمتقاعدي العراق

"في 24 ساعة".. حملة كامالا هاريس تجمع 81 مليون دولار

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram