محمود عبد الوهاب القارئ ، في طروحات نظريتي التلقي والاستجابة ، هو فاعل ومنشّط للنص المقروء ومؤلف ثانٍ له ، فالقراءة ، كما يرى ( إيزر ) هي اللحظة التي يبدأ فيها النص بإحداث أثر ما في قارئه .أهم ما جاءت به النظرية الأدبية في منتصف القرن الماضي هو تحويل الانتباه إلى القارئ ،
والاهتمام بدوره في تفعيل النصوص . توصيف( القارئ العادي ) الذي جاءت به (فرجينيا وولف) فقدَ مدلوله في راهن النقد الحديث ، وظهرت توصيفات جديدة للقــارئ في المنهجيات الحــديثة مثـــــل ( القارئ النموذجي ) و ( الأمثل ) و ( الفائــق ) و ( المثالي ) التي تُفصح عن إقرار صريح بامتلاك القارئ القدرة الناشطة على إعادة إنتاج النص ، يكون القارئ فيه مؤلفاً ثانياً بعد مؤلفه الأول . ما يميّز القارئ النموذجي من القارئ العادي أن الثاني يكتفي بقراءة المعنى اللغوي التقليدي للنص ، بينما يستجيب القارئ النموذجي للتفاعل الذي يحصل بينه وبين النص المقروء ، ويعني هذا "التفاعل " عملية ممارسة ما يفعله النص بقارئه ، فالقراءة هنا ليست عملية لاكتشاف ما يعنيه النص ، بل ما يفعله . القارئ العادي يشاهد بعينيه سطح النص ، بينما القارئ النموذجي مكتشف لما وراء النص ، ومن هنا فعلى القارئ المكتشف أن يهيئ عُدّته للحفر في باطن النص عميقاً . إن أضواء الدلالات العميقة للنص تجتذب القارئ وهو يتلقّى من الداخل إشارات تحريض للإيغال في ما وراء السطح ، فسطح النص علامات متشابكة متداخلة ينبغي للقارئ أن يخترقها وإلاّ كـان مستهلكاً للنصوص لا منتجاً . كيف يخترق القارئ تلك العلامات ؟ . يرى ( إمبرتو إيكو ) أن النصّ ليس نسيجاً من الدلالات الصريحة، لكنه قارة رهيبة من المسكوتات التي يتوجب على القارئ ملء فراغاتها واستنطاق مكنوناتها ، فالنص آلة كسولة تحتاج إلى من يضيف إلى هيكلها معانيَ أُخَر . ويرى (بول ريكور ) أن القراءة لا تقف عند حدود الفهم واجتراره ، إنها تتــجاوز المفهوم إلى مستوى الانفتاح وتوليد الدلالة ، ويؤكد ( إيزر ) أن القــــارئ " نظام مرجعي " للنص يتم التواصل بينهما بما يضيفه القارئ إلى النص من الإحالات الكامنة داخله . تتفق هذه المنهجيات على أن القراءة إضافة إلى النصّ بالتفسير والتـأويل ، لكنّ ( إيكو ) يحترز من النشاط الطليق في التأويل الذي يُسقطه القارئ على النص من ذاته مما يولّد قراءات ذُهانية ومنحرفة ومَرَضية . إن سؤالاً ينبغي أن يطرح الآن : إذا كان نشاط القارئ التأويلي بملء الفجوات والفراغات داخل النص واضحاً في منهجيات الدراسات الحديثة ، فلماذا لا يفكّر كتّاب التحديث بتصميم نصوصهم على وفق تلك المعرفة؛ لحمل القارئ على المشاركة التعضيدية في بناء خطاباتهم ؟. قد نجد إشارات لذلك عند عدد من الكتاب ، وهي إشارات تخصّ صنعة الكتابة . يشير ( آلان روب غرييه ) إلى ضرورة الإقلال من الصفات في كتابة الرواية ، وأرى أن سبب ما ذكره (غرييه ) ربما يعود إلى أن الصفات كثيراً ما تكون كابحاً لخيال القارئ أو أنها بالمعنى الذي جاءت به نظرية القراءة ، لا تتيح للقارئ الاستعانة بـ ( مستودعه ) أي خبرته في ملء فراغ الصـفة. إن جـملةً مثل ( .. . القرية الواقعة على الجبل ... ) لا تتيح للقارئ أن يستدعي في خياله قريته التي ربّما تكون على مقربة من المدينة ، بســــبب تقييد الكاتب مخيلة القارئ ومشاركته التعضيدية بـ (الصفة) التي هي (الواقعة على الجبل). إشارات صنعة الكتابة هي في "جوهرها " طموح الكاتب إلى أن يتفاعل نصّه مع قارئه. مملكة القارئ تتأسس باستجابة القارئ إلى " الجميل " استجابة فاعلة ، وتوسيع نطاق حساسيته متعةً وثقافة وبناء رؤية جمالية – معرفية يستحق بها أن يحمل القارئ صفة القارئ النموذجي والأمثل والفائق.
اوراق: مملكة القارئ
نشر في: 20 أكتوبر, 2009: 06:37 م