د. نادية غازي العزاويقد تختلف الآراء في تقييم تجربة الطاهر النقدية، وفي تقييم تجربته المقالية (النقدية والإنشائية) ولكن ثمة إجماعاً كاملاً على غنى تجربته الأكاديمية: تدريساً وتأليفاً وتأثيراً، وبالمستويين الأفقي والعمودي: الأفقي: بامتدادها الزمني العريض لما يقرب من نصف قرن (من عودته عام (1954م) إلى ما قبل وفاته عام 1996م)
والعمودي: بفاعلية دوره فيها، ويصفه بعضهم بأنّه «ثورة في التعليم إبّان الخمسينيات»، بينما لا يراه صاحبه –تواضعا– أكثر من إصلاح – في أحسن الأحوال-: «مضى في ذلك طبيعياً بسيطاً ولكنّ غرابة الحال عمّا يحيطها أظهرته وكأنّه مصلح أو ثائر»،وما بين (الثورة) و(الإصلاح) كان الطاهر مؤمناً إيماناً راسخاً بخطورة دور الجامعة في النهوض والتأسيس والبناء والتحديث،كما هو ملموس في الدول الكبرى،فاعتصرته الموازنات المريرة بين وضع الجامعة في فرنسا – مثلا – ووضع نظيرتها في العراق، وبخاصة العطب الذي طال مقوماتها الأساسية:المناهج الأستاذ والطرائق التعليميةالطالبكان ينظر- بإكبار- إلى الأستاذ شخصا وأداءً لأنه محور العملية التعليمية وقلبها النابض، وقد تضافرت ثلاثة عوامل في الأقل على بلورة هذا المنظور وترسيخه لديه:1- الرؤية المثالية للمعلم، المعلم – الرسول المنذور لمهمّته بكل ما تنطوي عليه شخصية الرسول في النزاهة والترفع والإخلاص المبدئي والكامل للرسالة والسعي التام لنشرها وتطبيقها.يقول الطاهر: فليس «كل من جلس على كرسي التدريس.. أستاذاً، الأستاذ علم وأدب وسلوك وشخصية» وهو «وحدة متماسكة لا تتجزأ ولا تتناقض»، وأستاذك «في المصطلح هو الذي يعلمك العلم، ولكنه فيما هو أحسنُ من المصطلح الذي لا يعلمك العلم وحده فيبقى-حينئذ- ماثلا في نفسك خلال تصرفك وخلال تعليمك ومن ثم ينتقل خالداً في الأجيال قولاً وعلماً».2- نفرٌ من الأساتذة الأجلاّء والأعلام تتلمذ عليهم في دار المعلمين العالية والسوربون أكدوا لديه هذه القناعة.3- استلهام معايير تجربته الشخصية في التحصيل والتدريس بالمثابرة والدأب والإنصراف الكليّ للهمّ العلميّ والعزوف عن كلّ ما يمكن أن يخدش حضور الأستاذ وهيبته.يقول إسماعيل الشيخلي عنه عام 1985م «تعود معرفتي بالصديق الدكتور علي جواد الطاهر إلى عام 1948عندما كُنّا ندرس معاً في باريس، كان.. يعتكف بعيدا عن لذائذ باريس.. في غرفة تقع خلف السوربون ولا يغادر إلاّ لحاجات ضرورية جداً، كنا نحلم أن نراه في إحدى ساحات الحي اللاتينيّ أو مقاهيه، لهذا كنّا نزوره أسبوعيّاً في غرفته وهو منكبّ على المطالعة ودراسة الكتب، ولا اعتقد إن أيّاً منّا.. ينسى هذا الرجل الذي استهوانا جميعا بجديّته وكرمه ورقّته وعلو خلُقه.. بعيد كل البعد عن صغائر الأمور.. كان كبيراً منذ ذلك الوقت، وهذا الانطباع الذي يعود إلى (37) عاماً ما زال يترك لدي الانطباع ذاته: الكبر، التسامي، التجدد، الحيوية، متابعة الحياة الثقافية الجديدة..».كانت مقالاته في تأبين أساتذته: مصطفى جواد، محمد مهدي البصير، طه الراوي، احمد المهنا – في غير التعليم الجامعي-، وفي تأبين زملائه: المخزوميّ وفؤاد سفر.. الخ مجالاً خصباً لتقديم موازنات من هذا النوع: بين الأنموذج الناصع وبين الواقع النقيض، ويُستَفَزّ قلمه وينفعل وهو يرصد كل ما من شأنه الإخلاص بهذه الصورة المتعالية على واقع ينوء بمظاهر القصور والنكوص والإستهانة بالمسؤوليات العلمية والتربوية للأستاذ.يقول عن أستاذه البصير: كان زاهدا راضيا بالقليل الذي لديه.. وانه لأرفع مما كان ينزل إليه آخرون من دينار هنا ودينار هنالك، وارفع حتى من أن يطالب بحقّه إذا كان حقّه هذا يتصل بالمال وكانت المطالبة تقتضي قليلا من التنازل.. ولو كتب لك أن تكتب بحثا فيما عرف.. بالمحاضرات، وعقدت فصلا أو فصلين على الأساتذة الذين يوقّعون على ورقة الحضور مع الغياب، وفي دفتر المحاضرات مع كونهم في إجازة مرضيّة أو انتداب خارج العراق يوقعون ليقبضوا دون إقامة الدرس الذي يؤجرون عليه، لو كتب لك شيء من ذلك لعرفت معنى آخر للزهد وصلته بالأخلاق والعملية التعليمية، ثم تكتب الفصول الأخرى في جشع غير مبرّر وخصومات لا تليق في أسبابها ومظاهرها ونتائجها بمهنة يراد لها ان تكون من اشرف المهن.وما أقسى ما عانى الطاهر حين كانت تنكسر هذه الصورة ويرتضي الإنسان لنفسه أدواراً تطيح برسوليته من عليائها، وتفيض صفحات كتبه بذكر أمثلة لهذه الخسائر الاعتبارية الفادحة ومن واقع معايشة دقيقة – ولا يُنبيك مثل خبير-، يقول عن بعض معايشته في الدراسة في القاهرة: وأخذنا مقاعدنا، وكان في المراقبين الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي أمطرنا من قبل ونحن في العراق بكتبه الفلسفية تاريخاً ونظريات وأعلاماً، لقد كان ظاهرة في بابه غير ما صحب رسالته للدكتوراه عن الزمان الوجودي من ثناء أو إطراء وإعلاء، اجل ولم أرَ في حياتي كلّها من قبل ومن بعد اضعف من الدكتور عبد الرحمن بدوي في قاعة الامتحان، لقد كان نادلاً بين الطالبات يشرح لهذه السؤال بما يفيد العلم إن كان سؤالها في متناول معرفته، وينق
تجربة علي جواد الطاهر في الجامعة .. غربة المثال وبؤس الواقع
نشر في: 21 أكتوبر, 2009: 04:59 م