TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > في المسألة الثقافية والموروث

في المسألة الثقافية والموروث

نشر في: 24 أكتوبر, 2009: 06:09 م

لطفية الدليميليس كالصينيين شعب نجح بامتياز في نقل الجوانب الإيجابية في تراثه الثقافي من جيل إلى جيل و حقق توازنا بين متطلبات العصر والثقافة التقليدية -قد ينافسهم اليابانيون في هذا، لكن الصين تقف في مقدمة شعوب آسيا الكبرى في حفاظها على الإرث التقليدي للحياة الصينية،
فهناك أسرار وخبرات وتعاليم موروثة تسري بسلاسة ويسر من الأسلاف إلى الأحفاد دون انقطاع او توقف او إهمال، ودون اعلام او ترويج دعائي او حملات حكومية منظمة، ويقوم المسنون بخبراتهم المتوارثة التي أثبتت جدواها عبر القرون بتلقين الأجيال الجديدة تلك المفردات الأساسية من الثقافة الشفاهية والثقافة العملية وتقاليد العيش الصحي وطرز الثياب والموسيقى والرقص والرياضة و التعاطي مع الطبيعة والكائنات من نجوم وشجر وحيوانات وإعشاب وأحجار وظواهر وتحولات فصول،و يقوم الراشدون بأدوارهم تلقائيا دون تفويض أو تدخل من سلطة أو حاكم أو رجل دين او فتوى، فيلقنون الصبيان والبنات خبرات العيش وتذوق جماليات الطبيعة واحترام الروح وتقدير الجسد وتدريبه عبر الرياضات التقليدية المتوارثة منذ أقدم العصور كرياضة( الوو شو والتاي شي) كما يعلمون الصغار مفهوم التكامل بين عناصر الوجود وحماية الطبيعة واحترامها باعتبارنا جزءاً من الطبيعة،وحمايتها تعني حماية الوجود الإنساني وإدامة التكامل الحيوي.. على النقيض من الصين،تبددت في بلادنا كنوز من التقاليد ومفردات ثقافية عريقة لها مساس مباشر بحياتنا اليومية وعاداتنا الصحية، بسبب استعلاء الأجيال الجديدة ونفورها من كل موروث ثقافي وجهلها بأهميته و نظرتها المتوترة لمحيطها، وانحيازها لكل ما هو جديد ومبهر مستورد تقدمه الثقافات المهيمنة وتشيعه عبر الإعلام، لقد فقدنا أرصدة هائلة من المعارف التقليدية بسبب رحيل أجيال فذة من المؤسسين الفاعلين في الثقافة العراقية و رحيل شخصيات شعبية كانت تكتنز خبرات موروثة في احترام قيم التعايش والتواصل بين الناس و تقاليد العيش الجميلة والفنون الشعبية وأساليب الغناء والرقص، وعادات الطعام والزفاف واحتفالات الأعياد، وضاعت معظم الخبرات الثمينة التي تمثل سداة الهوية المحلية ولحمتها وتعزز قدرة الهوية المنفتحة على استيعاب الناجع والمفيد من الثقافات الاخرى دون التفريط بالخصائص الايجابية للثقافة الموروثة التي تداولتها الأجيال السابقة.. ويمكن لمشاريع التنمية الثقافية في بلداننا وللنظم التعليمية الحديثة ( وهي غير نظمنا التلقينية) ان تعيد الاعتبار للتواصل بين الأجيال والاستفادة من شخصيات تمتلك خبرات في الثقافة الشعبية و تمثل رصيدا حضاريا بما تنقله من منظومات قيم أنسانية وخبرات متراكمة وتجارب لا تنقص من انطلاقنا في مضمار التقدم الحضاري والتواصل والحوار مع الآخرين. رأيت الصينيين في باريس -وعشت في حي صيني تقريبا – رأيتهم ضمن غيتوهات مزدحمة تحتل أحياء و شوارع بكاملها،ويقيمون ما يشبه الحواضر الصينية بديكوراتها ومطاعمها وازيائها وموسيقاها وتقاليدها وسط عاصمة فرنسا، حواضر حية تنفتح على الحياة الفرنسية من جانب الأخذ بمعطيات العلم والتطور التقني والتواصل مع الثقافة الفرنسية المعاصرة،وتحافظ من جانب آخر على معطيات الثقافة الصينية دون تحجر وانغلاق او استفزاز للمجتمع الفرنسي كما يفعل المتشددون المتأسلمون - بل انها تثري الحياة الفرنسية وتعزز تنوع باريس الكوزموبوليتاني وتمنحه ذلك الوجه الكوني المشترك،ويتطوع مدربون ومعلمون صينيون بتقديم خدمات مجانية في المتنزهات الباريسية الكبرى لتعليم رياضة ( التاي شي والوو شو ) وغيرها لكل راغب ويحيون تقاليد الصين العريقة وسط حاضنة الثقافة الغربية وفي الوقت ذاته يعلمون أجيالهم الجديدة تقاليدهم الثقافية بما فيها الحرف اليدوية التقليدية والرقص والغناء والطب الشعبي.. يكمن سر نهضة الصين الحديثة في اعادة الاعتبار للثقافة الصينية التي تعزز الجوانب الروحية والجسدية وتنمي مهارات التعايش بين الطبيعة والبشر، كما يكمن في قدرة الصينيين الباهرة على التقدم العلمي والتنافس السلمي مع الغرب واكتساح الأسواق العالمية بسلع استهلاكية زهيدة الثمن تقلد السلع الغربية وتقدم مفهوما إنسانيا لتداول السلع الميسرة بين الطبقات الفقيرة في بلدان العالم الثالث وأوروبا على حد سواء.. اليس جميلا ان نواصل طلب العلم من الصين ونعيد ترتيب اولوياتنا في نقل الخبرات بين الأجيال لعلنا نحقق التوازن العقلاني بين معطيات الحضارة العالمية وخصوصياتنا المحلية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram