محمد سعيد الصكارmohammed_saggar@yahoo.frفي مفهومنا، نحن الخطاطين، للقلم معنيان؛ الأول يعني الأداة التي نكتب بها؛ والثاني يعني نمط الخط الذي نستعمله؛ كأن نقول ( قلم الثلث، أو قلم المحقق، أو قلم الديواني؛ إلخ .) ، ونعني بذلك ( خط الثلث أو خط المحقق أو الخط الديواني ).
ولكل من القلمين حالات وأبعاد ومواضعات، وربما أسرار؛ سيعرفها المتأمل ساعة يصغي إلى إيقاع الحركة في مسار القلم وما يعتورها من تغيّرات . يأتيك القلم الأول ( الأداة ) مكتنزاً بالنيات، صامتاً متوتراً، حاضراً للإستجابة لنياتك، حابساً لنوازعه، منتظراً منك أن تقول، ولكنه يظل متعالياً على أن يكون ( أداة ) في يدك تسجل ما تقول؛ ذلك أن للقلم، كما لكل الكائنات، كبرياءه وحياته التي لا يصح التعرض لكينونتها والعبث بها؛ وهنا ينبغي الإحتراز من التصرف العشوائي بطاقة هذه الأداة. في لب القلم، لب الفكر. يأتيك سائلاً مرة، جامداً مرة، متخثّراً مرة؛ وأنت بين هذه الحالات، تجد اللب بين يديك، حاضراً لمشيئتك، ولكنه غير مستقل ولا بعيد عنها، إنه يتبلور نمواً وانحداراً مع ما في فكرك من تحولات، ولذلك تجده سلساً مرة وعصيّاً مرة، كما يأتيك قلم الرصاص متواضعاً سهل المحو، ويأتيك غيره متعنّتاً صعب التفاهم . جد المتابع الصبور، إذا تأمل، أن هناك إيقاعاً خفيّاً وتوازناً بين ما يفكر فيه وما يراه على الورق، فحركة القلم لا تأتي، في الواقع من غرز سن القلم على الورق وتحريكه للوصول إلى الصيغة المطلوبة ما لم يكن هناك تصميم مسبّق خفيّ أو قيم غامضة تأخذ القلم إلى مداره . أذكر من تجربتي الشخصية أن فتاة عربية أرادت أن تتعلم مني فنون الخط العربي، وكان في ظنها أن ذلك من السهولة بحيث لا يقتضي وقتاً طويلاً؛ وقد طلبت منها أن تبدأ برسم دوائر بقلم الرصاص، بتلقائية وسرعة لعدة أيام لكي تطوّع سلاميات أصابعها، وتحسن السيطرة على استدارة الحروف وانحناءاتها. ولكي أبرهن لها على ذلك، أخذت القصبة وغرزتها بالحبر، ورحت أرسم لها استدارة حرف النون، فإذا باستدارة النون تأتي مطابقةً تماماً لاستدارة الأداة البلاستيكة التي نقيس بها الإستدارات والمنحنيات. ذُهلت يومها من هذا التطابق الغريب الذي لم أجربه سابقاً، لكنني أخفيت دهشتي عن تلميذتي؛ وحالما غادرت، انصرفت أنا لمراجعة هذه الحالة، ورحت أخط وأقيس والنتائج تتوالى بصحة الأداء، ويأتي حرف النون كما أريد من دقة الاستدارة والانحناء وجمالها؛ وصرت كلما أبدأ يومي أبدأ بحرف النون . تأملت في ما بيني وبين نفسي؛ ما الذي يجعل اليد تنسحب بهذه الحركة فتجعل الاستدارة متقنةً بهذا الشكل؟ فرحت أرقب حركة اليد وحركة القصبة، فأحسست كما لو أن يداً خفية وراء يدي تدفعها إلى أن تذهب يساراً بنسبة معيّنة، وتنحني بنسبة أخرى، وتُنهي الحرف بما أحب. لا أقصد من هذه الحالة ما آل إليه التطبيق، ولكن ما يشغلني هو ما وراء تلك الحالة التي أحس كأن الكف براحتها وأصابعها وسلامياتها مزمومة ومتوترة بانتظار اندفاعها نحو ما أريد. من هنا، أجد القلم الأول أكفأ للتعبير عن الحالات النفسية والعصبية والمزاجية، ومفصحاً عما وراء حركة القلم من تموجات هي انصهار لبّ القلم بلبّ الفكر. ساءلت نفسي: أيكون هناك ما يدفع أصابعي إلى هذه الحركة ويحثها على التواصل إلى نهاية الحرف؟ أم أن هناك تناغماً خفياً يوصلها إلى ما تريد؟ لا أدري؛ أنا أنام، وتبقى مجسات القلم يقظة بكل عنفوانها تنتظر النقرة التالية. أما المعنى الثاني؛ فله شأن آخر ذو علاقة بأمور أخرى كمادة القلم، إن كان خشباً أو قصباً أومعدناً أو غير ذلك؛ أو كحجم القلم أو عرض سنّه، أو ميلان أو انحراف قَطّته، إلى آخر ذلك من شروط ينبغي أن تتوفر فيه ليحقق الضوابط والقواعد التي يشترطها كل قلم ( كل خط ). ولهذه الأقلام ( الخطوط ) خصائص فنية دقيقة يصعب معها التماس الحالات النفسية والمزاجية لكل خطاط لكون القواعد الخطية لكل خطاط تخضع لقواعد متشابهة يتبعها الخلف عن السلف وتضيع فيها ملامح كل خطاط على حدة؛ وهو موضوع غير ما نحن فيه.
مجسّات القلم
نشر في: 24 أكتوبر, 2009: 06:19 م