شاكر النابلسيوتاهت فكرة القومية العربية بين تطبيقات حزب البعث السياسية في سوريا والعراق، التي كانت بعيدة عن مبادئ الحزب الحقيقية، وبين صوفية عبد الناصر القومية وتطبيقاته في مصر سوريا واليمن. وتاهت فكرة القومية العربية،
بين أيهما يجب أن يكـون متقدماً على الآخر: الوحدة أم الحرية. ففي حين قال البعثيون إن الوحدة تتقدم الحرية، قال الناصريـون إن الحرية هي التي تتقدم على الوحدة. وتاهت فكرة القومية العربية بين حزب البعث الذي ركّز على الدعوة القوميـة، وحصرها في الأمة العربية وبين الناصرية التي وسَّعت هذه الدائرة، بحيث شملت العالم الثـالث. وأصبح عبد الناصر بالتالي يطمع في زعامة العالم الثالث، وليس في زعامة العالم العربي فقط. وتاهت فكرة القومية العربية بين الأولوية الزمنية والقيمية للأمة على الدولة، التي دعا إليها حزب البعث وبين العمل الفُجائي العلوي الذي يأتي من الدولة، كما كان عليه حال الناصرية (هشام جعيط، "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي"، ص68) وتاهت فكرة القومية بين خطابات عبد الناصر العنترية المتعصبـة، التي كانت توجهها المشاعر العاطفية للرعاع بحيث أصبح عبد الناصر ومعه القومية العربية ضحيـة لهذا الرعاع، وبين الإيديولوجيا البعثيـة الغامضة الخاصة الموجهة للنخبـة المنتخبة. و"كلاهما كان يتصف بالطفولية، أو مرحلة ما قبل التاريخ بالنسبة للقومية العربية". (هشام جعيط، المصدر السابق، ص69). أبرز أسباب هذه المتاهات ولعل أبرز مسببات هذه المتاهات، هذا الغموض الناتج عن أننا لا نعـرف ماذا نريد. فإذا عرفنا فإننا لا نملك إرادة التحقيق. فرغم هذا الكم الهائل من أدبيات القوميـة العربية من مختلف الجهات ومن مختلف المستويات الثقافية ومن مختلف الاتجاهـات الفكريـة، إلا أن مفهوم القوميـة العربية بقي وما زال مفهوماً غامضـاً لا يمكن تحديده تحديداً واضحاً، إذ ليس هناك من تحديد واحد يمكن أن يشمل جميع النواحي المتباينة والمتناقضات البارزة التي تتميز بها هذه القومية.(زين نور الدين، "نشوء القومية العربية"، ص 143-144). فهل القومية حركة سياسية؟ أم أنها إحياء ديني؟ أم أنها حركة عَلْمانية وثيوقراطية؟ وهل هي قوة إيجابية هدفها وغايتها القصوى توحيد العرب؟ أم أنها قوة سلبية هدفها الوقوف ضد الغرب؟ لقد عبرَّ عن هذا التيه القاسي الروائي السعودي عبد الرحمن منيف بقوله: "مرَّ الفكر العربي بمراحل عديدة، وكان يغلب عليه في كثير من هذه المراحل الغموض والحيرة والتجريب، وكان يتخذ مواقف متباينة تجاه عدد من القضايا بسبب مجموعة من الأفكار والعوامل والقوى الطارئة دون أن تكون نابعة من نظرية ثابتة. وبذا، لم تكُ حركة القومية العربية تملك موقفاً نظرياً متكاملاً، وبالتالي لم تكُ تمتلك موقفاً عملياً واضحاً تجاه كثير من القضايا التي طُرحت. إننا بحاجة إلى اتفاق وجهات النظر حول مفهوم القومية العربية ومضمونها لإزالة كثير من الغموض والإبهام والفوضى الضاربة في التفكير حول هذه القضية." ("القومية والهوية والثورة العربية"، ندوة دراسات في الحركة التقدمية العربية، ص 74- 144). وكان ميشيل عفلق، قد فطن منذ زمن طويل وفي الأربعينيات لهذه الإشكالية، وحذَّر من هذا الغموض الذي كان هو نفسه قد وقع فيه طوال حياته الفكرية، فقال في بداية حياته الفكرية القومية: "يؤدي ضعف الفكرة القومية وغموضها وتقصيرها عن تكوين النظرية المناسبة لظروف الأمة العربية في هذا العصر إلى انخداع عدد من الشباب يتوق إلى الفكر الواضح المنظم وإلى إيجاد الحلول العملية لمشاكل المجتمع العربي. (ذوقان قرقوط، "ميشيل عفلق: الكتابات الأولى"، ص150). في حين أن باحثاً آخر يرى عكس ذلك، ويؤكد أن حركة القومية العربية أصبحت اليوم حركة واضحة المعالم: "إن حركة القومية العربية في الوطن العربي اليوم هي حركة واضحة المعالم محددة الأهداف، بعد أن نمت وتطورت على مدى قرن من الزمان أو يزيد، وقد تبلورت فكرتها واستكملت أبعادها خلال هذه الفترة." إننا بحاجة للخروج بفكر القومية العربية من هذا التيه.. ولن نخرج من هذا التيه إلا بعد زمن طويل. ذلك أن فكرة القومية العربية رغم مرور أكثر من قرن ونيف على نشأتها يبدو أنها ما زالت في مرحلة التنشئة، وفي دور الفطام من خلال شهادات عدة مفكرين في هذا العصر. محاولة للخروج من اللون الأبيض من المعلوم أن كلمة "القوم" و"القومية" كلمة قديمـة في التراث العربي، ومن صلب النص الديني الإسلامي. فالقرآن الكريم مليء بكلمة "قوم"، فهناك أكثر من ثلاثمائة إشارة وذكر لكلمة "قوم" في القرآن الكريم تختلف معانيها من آية لأخرى. في حين يخلو القرآن الكريم خلواً تاماً من كلمـة "وطن" ووطنيـة. ولا يشير من بعيد أو قريب إلى الوطن. وكلمة "الوطن" ومفهوم "الوطنية" حديثا العهد في القاموس الفكري السياسي. والفكر السياسي العالمي المعاصر، يحاول تحاشي كلمة "قومية" الآن لما تحمل من المعاني العنصرية
فكر:متاهــات الخطــاب القومي بين الطوبــاويــة والبــراغمــاتيــة
نشر في: 25 أكتوبر, 2009: 04:43 م