صادق الازدياسمه (عبدالقادر احمد) الاّ ان الوسط الاعلامي عرفه باسم (عبدالقادر مطبوعات) وذلك بسبب المدة الطويلة التي امضاها في ملاحظية المطبوعات بوزارة الداخلية، ثم مديرية المطبوعات فمديرية الدعاية والنشر، فالمديرية العامة للتوجيه والتي صارت وزارة في ايام وزارة الجمالي
(1954، عندما عين فيها رفائيل بطي وزيرا بلا وزارة يشرف على شؤون الدعاية والنشر).. ولو لم يحل عبدالقادر مطبوعات نفسه على التقاعد في ايار 1958، اي قبل شهرين من قيام الثورة لكان قد اعتبر بحق من مرافقي العهد الملكي منذ قيامه حتى نهاية عمره، ولكان الشاهد الحي على الاوضاع الصحفية في ذلك العهد الذي بدأ سنة 1921 وانتهى في تموز 1958! وكانت اخر وظيفة اشغلها عبدالقادر، هي الاشراف على الجريدة الرسمية –الوقائع العراقية-. شذوذ ام تقشف؟ كان عبدالقادر ليس بالطويل ولا بالقصير، ممتلئ الجسم، يرتدي الملابس الافرنجية اثناء ساعات الدوام الرسمي، ولم يكن يعتني بهندامه وكثيرا ماكان يغطي رأسه بالسيدارة الوطنية، اي المصنوعة من الصوف المكبوس (جبن) اما خارج الدوام وفي العطلات، فكان يلبس (الدشداشة) وهي من قماش سميك، او من الصوف المحلي المنسوج يدويا (بشت) ويرتدي مع الدشداشة سترة من قماش محلي (فتاح باشا) ولايرتديها صيفا، مكتفيا بالعباءة الصوفية التي يضعها على كتفيه، وينتعل الكيوة او حذاء مشابها لها يصنع من قماش الخيام، ويقضي سويعات فراغه في احد المقاهي، او زيارة اصدقائه من الصحفيين والادباء والمؤرخين. وقد تعرفت عليه بعد ان عملت في جريدة (الاخبار) سنة 1941 وكنت قد عرفته من كتاباته في ملحق جريدة الاخبار الصادرة سنة 1939 وكان يخاطب بها (ام كلثوم) او يداعب بها الدكتور زكي مبارك، وظلت الصداقة تجمعني به حتى فارق الدنيا!. والان، هل كان عبدالقادر يرتدي اللباس الخشن اقتصادا ام بخلا؟.. وهل كانت تصرفاته ناجمة عن فلسفة ام زهدا وتقشفا؟.. في الواقع انه لم يكن بخيلا، بل العكس هو الصحيح، وهو لم يتزوج لسبب غير معروف، وكان يمد يد العون الى اقاربه المحتاجين، والى غير اقاربه كذلك بل كان يقتصد من اجل ان يعطي، فهو من اكرم من عرفت، واطيبهم قلبا، واعفهم لسانا ويدا.. مهووس بالطرب الاصيل وكان عبدالقادر مطبوعات صاحب اذن موسيقية وعنده معرفة جيدة باصول المقام العراقي، وكان يعتبر المطرب محمد القبانجي سيد قراء المقام وكان يحب السيدة ام كلثوم الى حد الوله، وكان يقتني اسطواناتها واشرطة اغانيها ويرتاد دور السينما التي عرضت افلامها، وقد كنت رفيقه في المقصورة التي جلسنا فيها بسينما الرافدين لنشاهد فلم ام كلثوم (دنانير) ودهشت عندما رأيته ينهض عن مقعده وينحني لام كلثوم فور ظهور صورتها على الشاشة!! وبطبيعة الحال فانه لم يتخلف، الا مضطرا، عن الاستماع الى احدى حفلاتها المذاعة من اذاعة القاهرة، وعندما ظهرت اجهزة التسجيل اقتنى واحدا منها وصار يسجل حفلاتها الغنائية، ولست اعرف ما الذي جرى لما كان يملكه من اسطوانات واشرطة وما له صلة بها من اجهزة وادوات اذ لم اعلم بوفاته الاّ بعد حين! يوزع حصته من الارث ودخل عليّ في غرفتي بادارة مجلتي – قرندل- قبيل ظهر احد الايام وهو متهلل الوجه فبادرته متسائلا: -اراك فرحا، فهل حصلت على اغنية جديدة لام كلثوم، ام ماذا؟. فاجابني وهو يكاد يرقص سرورا: -لقد عدت توا من المحكمة، فقد كانت لي حصة في بيت بمحلة باب الشيخ، تم بيعه ووزعت الحصص على الورثة اليوم، وقد وزعت حصتي على الوارثين الذين ادخلت الفرحة الى قلوبهم! وقلت: ولمَ لم تحتفظ بما ورثته فقد تحتاج اليه في يوم قادم؟ فاجابني بجد: لن احتاج الى شيء فعندي راتبي، وفيما بعد راتبي التقاعدي، وان مرضت فالمستشفى موجود.. وهل نسيت انني بلا زوج ولا اولاد.. متى فكر بترك الوظيفة؟ وعندما قام الاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن عام 1958 جاءني وجلس غير بعيد عني وقال لي هامسا: -قررت احالة نفسي على التقاعد. فسألته: لمَ ؟ أانت مريض؟ ام نقلوك الى وظيفة لاتعجبك؟. اجاب: لا هذا ولاذاك، فان الذي حدث لا افهمه ولا استوعبه؟ ففي العهد العثماني كانت العاصمة بغداد هي العاصمة، واليوم يقولون ان في عمان حكومة وفي بغداد حكومة، وتوجد حكومة ثالثة هي حكومة الاتحاد التي ستقضي هنا ستة اشهر وفي الاردن مثلها، وهذا اربكني، اذ لا اعرف كيف يحدث ذلك؟. وعبثا حاولت اقناعه بانه في كثير من الدول الاتحادية توجد حكومات محلية، وحكومات اتحادية، الاّ انه رفض الفكرة وقال: -هذا صحيح، ولكنني غير مقتنع!! قصيدة (المجرشة)! واحال نفسه على التقاعد قبيل قيام ثورة 14 تموز 1958، وفي صباح احد ايام شتاء عام 1962، لقيت عبدالقادر مطبوعات في الطريق وهو بقيافته التي اشرت اليها، عباءة، وبشت، وسترة، وسيدارة وطنية، ويحتذي حذاء صنع من قماش الخيام فسألته بعد التحية والسؤال عن الصحة: -الى اين؟! قال: الى المقهى! ولمحت تحت ابطه كتابا فسألته، وانا اشير اليه: ماهذا الذي تتأبطه؟! قال: ديوان الملا عبود الكرخي! فسألته ثانية: اهو رفيقك في المقهى؟! قال: لا.. ولكن صحبي في المقهى قد يتطرقون الى الاوضاع السياسية القائمة، وحتى اسكتهم افتح ديوان الكرخي عند صفحة (المجرشة)، واقوم بقراءتها ب
أكان فيلسوفا ساخراً.. أم موظفاً ساذجاً؟!
نشر في: 25 أكتوبر, 2009: 05:30 م