علي عبد الاميرعجامما ان تنتهي مقطوعة "الفجر" التي كتبتها عازفة البيانو والمؤلفة العراقية الارمنية الاصل بياتريس أوهانسيان، حتى تبرز كلمة واحدة من السامع توجز جوهر المقطوعة وتأثيرها: مدهش. ان الامر ليس مجرد تقنية عالية في التعامل مع لوحة المفاتيح في الآلة التي أسرت ابنة بغداد،
بل هي مسألة التعبير العميق التي لطالما كانت علامة على الموهبة الكبيرة لأوهانسيان، ليست كعازفة بيانو وحسب بل، بوصفها مؤلفة موسيقية أيضا. انها ايضا تقدم مثالا على ان الموسيقيين من دول الشرق ليسوا مجرد عازفين جيدين، بل يمكن ان يكونوا مؤلفين محترمين لمقطوعات تقع في صلب نسيج الموسيقى "الكلاسيكية" الغربية. وانطلاقا من هذا المدخل كان للراحلة أوهانسيان التي توفيت قبل فترة في الولايات المتحدة، تأثيرها الفاعل في تعزيز الموسيقى الكلاسيكية الغربية في العراق "في الموسيقى الكلاسيكية الغربية ، كنت أول موسيقي عراقي يواجه الاوروبيين بطريقة محترفة" ، وكانت محقة تماما في قولها، خاصة عندما نعلم أن بياتريس ولدت فيما كان العراق بدأ للتو اهتماما عميقا في فنون العالم الغربي وثقافته. كانت في المدرسة الابتدائية عندما تم انشاء معهد الفنون الجميلة في عام 1936 ، وتقدمت بطلب للانضمام اليه في وقت لاحق، ورفض طلبها لأنها كانت صغيرة جدا "كانت شروط القبول في المعهد تقضي بأن يكون الطالب حائزاً على شهادة الدراسة الإبتدائية، وأن يقل عمره عن 13 سنة. هنا تقول بياتريس: دخلتُ إلى المقابلة أمام لجنة المعهد المكوَّنة من الأساتذة الشريف محيي الدين حيدر، مدير المعهد، وحنا بطرس، معاون المدير، وأستاذ البيانو الروماني جوليان هرتز. قدّمني الأستاذ حنا واصفاً إياي بـ "شوبان الموهبة المبكرة" معزِّزاً طلب إنتمائي للمعهد، كوني موهوبة في العزف. قدمتُ عدداً من القطع والتمارين أمام اللجنة بشكل جيد، فنالت إستحسانها. لكن اللجنة وجدت عائقاً أمامي لقبولي في المعهد بسبب صغر السن، وكوني لا أزال تلميذة إبتدائية. وبتدخُّل تشجيعي من الأستاذ حنا بطرس، تم قبولي إستثناءً من شرط العمر. وهكذا بدأت الدراسة الفنية بالشكل العلمي الجيد على يد الأستاذ الروماني جوليان هرتز، وتخرجتُ في العام 1944، بدبلوم فن عالٍ بدرجة إمتياز". وقبل الثانية عشرة من العمر كانت الصغيرة اوهانسيان تقدم حفلات أسبوعية في محطة إذاعة بغداد! موسيقى وحرية لا شيء يعبر عن حركة المرأة العراقية نحو الحرية والحقوق ، مثل نشاط المرأة العراقية في مجال الموسيقى، حيث بالامكان اكتشاف عشرات المغنيات والموسيقيات في العراق للفترة من الاربعينيات حتى الثمانينيات من القرن الماضي. نساء موهوبات لم يعكس نشاطهن الفني مجرد جوانب الحرية والمساواة ولكن أيضا كان يعكس جانبا من عملية تحديث بلدهن. وانطلاقا من هذا فان بياتريس أوهانسيان المستنيرة تضيء لنا مسار امرأة عراقية تتطلع نحو الحرية والحقوق. فهي نشأت في ظروف عندما كانت الحكومة العراقية خلال العهد الملكي توفر المنح الدراسية لتعلم الفنون الادائية ، وهو ما سمح لها بالدراسة في الأكاديمية الملكية للموسيقى بلندن. ومن هناك توجهت إلى نيويورك للدراسة في مدرسة جوليارد للموسيقى. أخيرا عادت إلى العراق في عام 1961 لتصبح العازفة الرئيسية للبيانو في الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية. العراق والانتماء العراقي لم يكونا خيارا ثانيا لها رغم انها ولدت في بغداد لأبوين ارمينيين،فالأب والأم فرا من الإبادة الجماعية للأرمن عندما كانا صغارا. والدها كان عمل محاسبا في شركة النفط ، وهو ما عنى أن تعيش العائلة بشكل جيد وسط تشجيع والدها وأشقائها لها في دراسة الموسيقى. من هذه النقطة اتخذت بياتريس البيانو كوسيلة للتعبير عن حياتها وبلدها. واذ نتوقف كي نلقي نظرة على حياتها عندما زارت شقيقها في ولاية مينيسوتا الاميركية العام 1959. نجد عبارتها المؤثرة : "الجميع قال لي عليك البقاء في أميركا ، ولكن صوت داخلي قال لي يجب أن اعود إلى العراق وتعليم ابناء بلدي حب الموسيقى. الموسيقى الكلاسيكية كانت للتو قد عرفت في العراق، وانها بحاجة الى اشخاص مثلي هناك للعمل على ازدهارها ". في العام 1959 حزمت حقائبها على متن السفينة "كوين ماري" وأبحرت الى لندن ، ومن ثم الى العراق. بيانو في ليالي الصواريخ الحدث الأكثر إثارة في حياة بياتريس، جاء في العام 1980 ، عندما كتبت أول مقطوعة موسيقية غربية بتاثير الحرب وهواجسها، فهي كانت تكتب عملها وتعزفه على ضوء الشموع بسبب فرض التعتيم ليلا في الستة أشهر الأولى من الحرب العراقية الايرانية ، وتتألف بياتريس التي تمارسها أضواء الشموع. وما ان اكتملت المقطوعة، حتى تم توزيعها للاوركسترا، وعزفها، وبثها عبر التلفزيون. نجاحها في تأليف المقطوعة تلك شجعها على كتابة سبعة اعمال أخرى بين عامي 1990 و 1994، حيث الحياة بدأت تضيق بسبب صواريخ "عاصفة الصحراء" والهجمات اللاحقة، لكن ذلك لم يكن قد اوصل الظروف حدا من السوء بحيث يدفعها هي وشقيقتها سيتا الى مغادرة البلاد، بل استمرت باحياء حفلات موسيقية داخل البلاد وخارجها. وكان عرضها الفني الأخير في العراق حمله العام
بــيــانــو بــيــاتــريــس اوهــانــســيـــان
نشر في: 25 أكتوبر, 2009: 06:44 م