أفراح شوقي كان أبو عبد الله النجار المعروف في منطقة الصالحية، يسابق عقارب الساعة صباحا كي ينجز دولاب ابن جاره بعد ان اعطاه وعدا بتسليمه إياه عصر يوم الأحد. بجواره كان صديقه أبو مرتضى الخطاط يصفّ ألوانه على جنب ليفسح المجال للوحاته الإعلانية التي خطها للتو لتجف تمهيدا لتأطيرها بالزجاج.
كنت انظر نحوهما عبر زجاج سيارة الأجرة التي استقلها، والتي توقفت بالقرب منهما بفعل الزحام ، قبل ان اضع جريدتي على جنب والتي ترافقني دوماً كي اهدر دم ساعاتي التي تضيع عادة في الزحام ، وقد استفزتني مقالة فيها كانت تتحدث عن أنفلونزا جديدة ضربت مفاصل حكومتنا الموقرة ، وأعراضها المستشرية في حجب المعلومات عن مشاكل المواطنين، وممارسة فنون التهرب عن وسائل الإعلام والرأي العام ، وإبدالهما بالعمل على تجميل تلك المشاكل وإضفاء اللون الوردي عليها. أقول كنت قد وضعت جريدتي جانباً ورفعت رأسي علّي أحظى ببعض التوازن مابين الحقيقة التي نعيشها كل يوم وتلك الادعاءات الوردية ، لكن نظراتي كانت تذهب الى يدي ذلك النجار وألوان ذلك الخطاط وأتأمل ما فيهما من حب للحياة. حانت مني التفاتة الى ساعة يدي كانت تشير الى العاشرة والنصف وأنا مازلت عالقة في زحام عتيد، وقبل ان ارفع نظراتي عنها ، دوّى انفجار كبير هز المكان بعنف وقلب صحو سمائه الى دخان وتراب خانق و نار وعويل ، ارتعدت .. وفي لحظة كان المشهد امامي عاصفا ، الامتار التي بيني وبين السيارة التي انفجرت اصبحت عالما اسود لا يشاهد منه سوى الظلام ولا يسمع منه غير الصراخ. اشتعلت الحرائق ، تطايرت اشياء لم استطع ألتقاط ماهيتها ، المشهد الذي امامي لا يوصف حيث غيوم من جنون هطلت بزخات الموت والدمار ، لم اعرف ساعتها ما افعل ، حاولت بفعل نداء سائق السيارة التي استقلها ان انتبه الى حالي ، تلمست رأسي وجسدي ، كنت في ذهول جعلني لم انتبه الى نفسي التي نالها العصف فرماني بسيل من الاتربة ، حين خرجت من السيارة كان كل من حولي جرحى ، تساقطوا بفعل الشظايا او الرعب ، نظرت الى السيارة التي استقلها وقد تحطمت مقدمتها تقريباً رغم انها وفرت لي بعض الأمان اثناء اعتكافي داخلها، خرجت منها بسرعة بعد ان كانت أبوابها قد فتحت بفعل العصف الكبير، و النيران تلتهم الاشياء من حولي ، ناهيك عن الفزع يتسيد المكان. لا ادري لماذا انتبهت الى النجار والخطاط ، شاهدت أثار حطام دولاب أبو عبد الله تطايرت وتلاشت بعد ان اختلطت بأشلاء البشر المحروقة ، واصطبغت لوحات ابو مرتضى بلون الدم والسخام، في الوقت الذي كان فيه جيرانه يحاولون إبعاده عن مكان الحادث وإسعافه من شظايا ثقبت جسده بالكامل. ولا أنسى عويل تلك المرأة وهي تحاول الافلات من قبضة رجال حاولوا منعها من الاقتراب اكثر باتجاه الحادث ، واتضح انها موظفة هناك خرجت لأداء عمل قريب وتركت ابنتها الصغيرة تلعب في روضة الأطفال في الطابق الأرضي لوزارة العدل، فيما انطبقت الجدران على معظم الصغار في الروضة الكائنة في الطابق الاسفل والجثث كانت تستخرج بصعوبة من هناك كما علمت فيما بعد عبر وسائل الأعلام. في الاتجاه الاخر لمحت امرأة كانت تحث خطاها برفقة ابنتها الصبية، وهما قادمتان من مجلس محافظة بغداد الذي شمله الدمار ايضاً بعد دقائق من الانفجار الاول الذي استهدف مبنى وزارة العدل،الصبية كانت مصابة والدماء غطت جسدها لكنها حاولت التغلب على آلامها ، وعرفت وقتها انهما قصدتا المحافظة كي تسجلا في مشروع صغير يعيلهما في حياتهما الصعبة بعد ان فقدتا رب العائلة في انفجار إرهابي مماثل. المشهد لحظتها.. كان اكثر من مأساة كاملة الفصول،وساحة حرب مشتعلة والمواطن فيها وحده المستهدف وهو اعزل الا من سلاح وطنيته المكللة بالدم. خطوت مع من معي من الناجين والراجلين حتى منطقة علاوي الحلة، ارتجفت الطرق بأرتجاف الساعين فيها وقد غمر الخوف كل شيء، والنظرات تتطلع الى الوراء تحاكي الدخان والعويل وسيارات الاسعاف والحريق التي جللت الفضاء بأصواتها المخيفة. فقد حكت اللحظات تلك وما بعدها ألمها ببلاغة فريدة دون ان تنبس بحرف، فالمنظر لا يحتاج الى تعليق ، فهو بكاء متدفق من اعماق الارواح التي اصبح الموت والخوف والفزع ظلالا لها. لا يحتاج المشهد الى تعليق بقدر ما يتعلق بمشاكل انشغال حكومتنا بالصراعات الانتخابية واشكالية الاحتفاظ بالكراسي وهي تعدنا بالامان المتحقق على الرغم من الدماء ولهيب نيران الدمار! ، ولا نقول سوى ان نشهد ان الله الاحد وحده قادر على ان يداوي جراح العراق الابي، ويبعد عنه شر الاثمين.. اللهم امين.
أحد... الدم
نشر في: 26 أكتوبر, 2009: 07:17 م