محمود النمر لماذا اطلق الشاعر سميع داود عنوانا لهذه المجموعة موغلا ً في القدم، وهو اسم بلاد وادي الرافدين في النشوء الاول لبدء الحياة على كوكب الارض،وهي مجموعته الثالثة "مــــــراثي ميزوبوتاميا "..؟ بعد "نوارس الموجة الاتية" ومجموعة "طائر المسافات " .
هل هو احساس ان هذه البلاد قد استبيحت منذ القدم ،بعدما كانت مهد السلالات الاولى ،وشهدت الحضارات التي كانت اساسا لحضارات اخرى، قامت في اماكن من ارض المعمورة،وظهرت اولى الملاحم الانسانية التي كانت صرخة احتجاج على اشكالية الوجود ،وطرح السؤال الازلي، ما هي سلطة الموت، التي تبطش بالحياة والبحث الدائم عن عشبة الخلود ..؟ . فهو يبدو لاول الامر الشاعر الذي ينعي وطنا /لم يزر مقلتيها الرقاد/ مذ رأت وطنا ً / غارقا ً / في السواد . انه يرى ان الاشياء في هذه الارض قد فسدت،فيراوده الهروب من ارض السواد،ولكن الانا التي تصر على البقاء،الانا الممتدة بجذورها في تربة هذه الارض التي بدأ منها الطوفان،ومنها ايضا بدأت الحياة مرة ثانية ً. لاتهرب / فرماد مدينتك الثكلى / يتساقط مثل رذاذ / فوق الروح / وملء الصدر /دخان حرائقها /لاتهرب / صاح الهاتف . الشاعر يشير من خلال مسك معاني الكلمات الى حجم الخراب،الذي حل بالمدن ،وهو لايعرف كيف يكون المنتهى من هذا الخراب الذي اخذ يزحف على كل شيء،ويخلخل التماسك الاجتماعي والنسيج في العلاقات مابين الاخرين لذلك يقف الشاعر في حيرة من امره... شاعر نصفه من زجاج /ونصف مطر /اذا مر اسم العراق تشظى /كقارورة سقطت / وا ن ت ش ر . في قصيدة –ميرياي – من سلالة ملوك بابل ، كما تذكر بعض النصوص المندائية عاشت في اورشليم بعد السبي اليهودي ،تركت الديانة اليهودية واعتنقت الديانة المندائية ما عرضها للاضطهاد والاذى ،لكنها كانت شديدة الايمان بانتمائها الجديد ما جعل منها رمزا اسطوريا . ميرياي/ايتها النجمة الطالعة /من ظلام الزيف /الى مساقط النور /كيف /اطعمت الباشق /محبة اليمام ..؟/واسكنت مديات عينيه الثاقبتين /صداقة العصفور !؟فترك مخالبه المزهوه /بتاريخ الفرائس /معلقة /كخيوط لبلاب . ان الشاعر سميع داود يضع –ميرياي –امام النص الشعري،وتبدأ المحاكاة التي يلقي بعض اللوم عليها او ينذرها من الوهم ومن التمادي في الضياع ويذكرها بالسبي اليهودي . يا اميرتي من قاد خطاك /الى خرائب اورشليم/ووحل ازقتها /المعتمة ..؟حيث لاافق ولا اقمار /وصدرك البلوري الحالم /يختنق برائحة السبي /ودخان الحرائق . انه يولج الزمن الماضي ويتداخل في الزمن الحاضر ،يرجع بالذاكرة عبر الاسطورة الى هذا الزمن المر،يحاول ان يدمج الاحداث عبر التداعيات وعبر استحضارات شخصانية واسطورية ليربطهما ثم يقا رن مابينهما ،وهذا هو رد اعتبار سايكولوجي بمقدار الهزيمة المرة التي تحدث في الشارع كل يوم ،-ميرياي –ملاذ ،وشاهد على العصور التي مرت والتي تمر الان ولعبة اسقاطات للزمنين /ميرياي /يامظلة الماء /وسحابة النور /ياتلاوة الضفاف /وتسبيحة في فم الفرات / لقد تكتمت طويلا /وصبرت كثيرا /لتجس /اناملك الصائمة / وحام الغيث .. ان الشاعر ينتقل بين طقوسه ،بتوجس خفي مدركا حجم الخراب الذي حل بالنفوس بعدما حل بالشوارع وهو مشيد بالجثث والدم المراق في الطرقات / كل مساء تأرق ُ/ الطفلة تبكي / كيف تنسى/ هالها ماحدث / دم على قميصها / دم ٌ على كراسة الرسم / دمٌ .. دمٌ ان هذه المجموعة لها قدرة على كشف الحزن والخوف والخراب،ان الشاعر لايرى غير ذلك وهي تمثل قدرة الاحساس المرهف لدى الشاعر الذي يرقب الموت والدم والفجيعة في الشوارع ،ويشعر بالغربة وهو في داخل رحم الوطن ولن يغادر،قصائد الديوان موجعة بالالم ولها دلائل توحي الى هزيمة داخل النفس وهي المراثي المستمرة في ارض ميزوبوتاميا ارض من تراب ودم منذ بدء تاريخ الانسانية ،ومن خلال عنوان كل قصيدة تعرف ما يدور في عيون الشاعر القلقة التي ترى وحدها وتتحسس اكثر من غيرها – ارق مستديم في هذه البلاد –وصية للحمام خوفامن المادي في الشروع بالطيران نحوالحرية فالرصاص يخترق كل الجهات -خوف من عيون الرقيب التي تسيطر على الطرقات وتعلن بلا توقف فانت من انت ..؟– عناد،يحاول الشاعر ان يشحذ الهمم من جديد بعدما خاب ذلك الامل –قلق فهو مؤرق حتى وان نامت الريح - حلم ورصاص حتى الاحلام يخترقها الرصاص يطوف كما يشتهي – خيبة من يطلق اصبع الاتهام نحو ذلك –الوطن هو عبارة عن اله يمنحنا قبلة الوداع – صلاة يحاول ان يصلي ليسلم الجزء الباقي من هذا الوطن – ردٌ الشاعر المغطى بحمرة الساحة – خذلان تداعيات توحي الى حجم الفجيعة – ارض نحاس –سماء حديد،يحفز شعر الى النطق او الانشاد – الهاتف محاولة للوقوف ثانية امام المشهد – ضياع يبحث عن ضياع في ارض مراثي ميزوبوتاميا، يحق لنا ان نطلق على هذه المجموعة –صيحات فاضحة لهذا الخراب...! .
مراثي ميزوبوتاميا.. ميـــريـاي مـــظـــلـة ٌ مـن مـاء
نشر في: 27 أكتوبر, 2009: 07:00 م