علي حسن الفواز هل يمكن لتجاذبات الواقع الامني والسياسي ان تنتج تجاذبات ثقافية؟ وهل يمكن للاحتلال العسكري ان يخلق عند هامشه احتلالات ثقافية او اقتصادية تعيد انتاج المزيد من الازمات، تلك التي ارتبطت بالمواطن والمجتمع والمدينة؟ وهل يمكن للانتلجنسيا العراقية في الداخل ان تتجاوز عقد الاحتلال والاستبداد
وان تصنع خطابا يعبّر عن نزوعها التطهيري اتجاه عقد اخرى غائرة، هي اكثر قسوة واكثر رعبا، تلك التي لم تزل راسخة في الذاكرة؟ عقد التهميش والعزل والفقر والتصحر الثقافي، فضلا عن الاحتلالات الداخلية التي مارستها(الحكومات الخاضعة للتوصيف الوطني) بشراهتها الامنية المعقدة ومطارداتها السرية والعلنية وسجونها الغامضة واخيرا حروبها العشوائية ومنافيها القهرية هي اغلب ما كان متمظهرا في الحياة العراقية والتي اسهمت في انتاج مظاهر للعنف الاجتماعي والاحتجاج الاجتماعي، والتي ارتهنت مرجعياتها لشيوع مظاهر التخلف وفقدان قيم العدالة الاجتماعية وشحوب الحياة الاقتصادية التي ظلت عالقة بالكثير من مظاهرالحياة العراقية، وكأن العراقيين محاصرون بأوهام وخرافات قارّة للحرمان من المدينة والجمال والعمران، حدّ ان خرافة كانت تسود الكثير من الاوساط الشعبية تقول ان تشييد جسر سابع في بغداد سيجعلها مدينة ملعونة، وثمة فلكي تعرضه الفضائيات العربية يقول ان وجود نصب الحرية للفنان جواد سليم في منطقة الباب الشرقي هو سر المصائب التي تحاصر مدينة بغداد. هذه الاوهام الطاعنة في الجسد العراقي وضعت المواطن والمجتمع امام سلسلة طويلة من الاحتلالات الداخلية والعقد وانماط من الحاكميات، تلك التي مارست عليها صدمة(الطاغية المستبد) الذي يضع الناس دائما امام المتحف/ المقدس، وامام فزاعة الخوف والاخصاء، حيث فرضت هذه(الاوهام) القصدية تصوراتها على صيرورة الشخصية العراقية واتهامها بانها شخصية تميل الى العنف والسرية والتناشز، رغم ان بناءها النفسي والطوبوغرافي والمزاجي يرسم صورة اخرى لهذه الشخصية، مثلما افقدتها الكثير من روح الثورة الاخلاقية والسياسية التي كانت سمة من سمات بنائها، ووضعتها امام خرافة القوة والخوف، وخرافة النص الايقوني والشخصنة الايقونية، تلك التي صنعت لها اطارا انثربولوجيا غمرها طوال عقود بالكثير من الاوهام المفرطة، اوهام الاجتهاد المغلق والبنية الاناسية المعقدة والمشوهة، واوهام تقديس الماضي والخوف منه، اوهام الازدواجية، اوهام العلاقة مع السلطة الاجتماعية والدينية والابوية، مثلما عمدت الى انتاج وتقوية كل ماهو قبل الدولة والعمران الثقافي ليكون مصدا امام قبول اية نزعة لوعي التحولات الاجتماعية والثقافية والعلمية. ولاشك في ان هذه الظواهر النكوصية اسهمت في فرض سياقات مشوهة وغامضة في بناء المواطن وبناء المجتمع وبناء المدينة، اذ ظلت هذه العلاقة الانثربولويجية محكومة بعوامل الابوة والهيمنة والطاعة والتقليد والغيرة والحسد، فالمواطن ظل مسكونا بايديولوجيا العائلة وايديولوجيا المكان الرحمي والطائفة والقومية واللغة والخوف من السلطة، والرهاب من الآخر، والفوبيا من أي خروج او تمرد على السياق. والمجتمع ظل مسكونا هو الآخر بعقد اجتماعية تقوم على هيمنة الوحدات القديمة، العشيرة، السلالة، الطائفة، القومية، الجماعات الديموغرافية المتماثلة في عاداتها ونظم اتصالاتها وتبادل معارفها وعلاقاتها الاجتماعية(القرابة والزواج والطقوس)، وطبعا هذه الوحدات تفتقر بحكم طبيعة نظام معيشها وعلاقاتها ومفهومها للنظام الاجتماعي الى القبول بوعي القيم الفاعلة للعمران البشري والعمران الثقافي وصناعة المؤسسات المدنية والاندماج مع المجتمع المتعدد، تلك التي يمكن ان تعيد انتاج العلاقات الاجتماعية في سياق من التواطن والتشارك وبناء المجتمع الذي يشرعن للدولة، تلك الدولة الجامعة ذات البنى المدنية المؤسسية التي تحمي المجتمع وتدافع عنها، ولتكون سلطة رقابة للمجتمع، ومنها مؤسسات الاعلام المستقل، مؤسسات المجتمع المدني للدفاع عن الحقوق العامة، مؤسسات الثقافة المدنية، بعيدا عن ظاهرة الخوف من السلطة القامعة. ولعل المدينة هي الاكثر تشوها في هذا المجال، اذ افتقدت المدينة العراقية اية لمسة من لمسات الحضارة العمرانية، مدينة تشبه القرية، نظامها الاجتماعي/القرابي ينعكس على النظام البنائي، اذ البيوت متلاصقة بحميمية خائفة، شوارعها ضيقة جدا، شبابيكها وشناشيلها عالية ومظللة وغير مفتوحة على الفراغ، وكأن هذا التصميم العمراني المتشابه في اغلب البيوت القديمة يعكس هاجسا نفسيا بالخوف والريبة من الخارج، تفتقد مصادر الترفيه والضوء واستغلال الفضاءات المكانية، والذعر من البناء العمودي تحت ايهامات الخوف من المورثات القديمة الغائرة في اللاوعي الشعبي ( اسطورة فرعون وهامان وبرج بابل) والتي صنعت وهما يقوم على لعنة هذا البناء الذي يطول قدسية السماء. لقد اسهم شكل المدينة القديمة في خلق تشوهات اجتماعية، وفرض عادات اجتماعية بالمقابل، اذ ان هذا الشكل البنائي يؤشر تحسسا امنيا من الخارج، مثلما هو يتماهى مع رغبة السلطة القديمة التي كانت تضع المدينة داخل الاسوار بحجة حمايتها اولا، ومنع تأثرها وانفتاحها على أي شكل من اشكال الثقافات الغريبة. ولعل اول انتهاك حقيقي للمواطن والمجتمع
انثربولوجيا المواطن والمجتمع والمدينة..قراءة في انهيار المدينة العراقية
نشر في: 28 أكتوبر, 2009: 05:49 م