ابراهيم المازني من حسن الصدف ان يكون الكاتب المصري الكبير الاستاذ ابراهيم عبدالقادر المازني ضيفا على العراق في بغداد يوم مرور رفات الافغاني، فساهم مع ادباء القطر بتكريم العبقرية الفذة، فاذاع مقاله هذا الممتع من دار اذاعة بغداد ونشرته جريدة الرأي العام الغراء بعددها الذي صدر خاصا بذكرى الافغاني.
لم ادرك السيد جمال الدين الافغاني في حياته، ولكن الله اكرمني بأن يسر لي الوجود في بغداد يوم ممر رفاته بها الى مسقط رأسه في بلاد الافغان، وما له في الحقيقة موطن خاص فانه رجل الشرق كله، وابن الاسلام والعروبة اجمع، فلكل بلد عربي او اسلامي حق فيه لاينازع ولاينكر. وليس من عادتي الاسف على ما يفوتني بالغا ما بلغ، ولكن ما عرض ذكر السيد جمال الدين الاّ ادركني الاسف وشاع في نفسي لان الزمن لم يتقدم بي بضع عشرات من السنين فاصل اسبابي باسباب هذا الرجل النادر، واقبس من روحه الساحرة التي انت كأنها مولد كهربائي ضخم يبعث الحرارة والقوة والحيوية في حيما حل، فما كان السيد جمال الدين اوحد اهل زمانه في العلم او الفلسفة او الذكاء وحدة الفؤاد، ولكنه كان على التحقيق، وبلا ادنى مراء، اوحد رجال عصره في قوة الشخصية وسحرها، وفي ايمانه بنفسه وبقدرته على ادراك ما يسعى له وتحقيق ما يدعو اليه، وتنزهه عن كل غاية شخصية او مأرب ذاتي، فما كان يسعى لمجد يفيده، او مال يصيبه، او حكم يتولاه، وما جنى هو من مساعهيه الاّ الاخطار والتشريد، وانما كان همه ومنى نفسه جميعا ان يوقظ هذا الشرق من رقاده الطويل، وان يبتعث همته الدانية، وينشله من وهدة الجهالة التي اخمدت روحه، ويجمع كلمته، ويدفعه الى التماس القوة والعزة، ولا سبيل اليهما بغير الحرية والعلم. ولم تكن دعوته مقصورة على العرب وان كان منهم فقد كان ابعد من ذلك مطارح همة، وكانت دعوته اسلامية عامة شاملة تنتظم البلدان والامم الاسلامية من حدود الصين الى شاطئ المحيط الاطلسي، ولم يكن هذا منه طموحا نظريا، او مجرد امل يحلم به فقد كان يجوب الارض ويركب البحر، ويزور بلاد العرب والاسلام واحدا واحدا، وما دخل بلدا الاّ ترك فيه حركة قوية، وكان له فيه اثر عظيم باق الى يومنا هذا، فاذا قلنا انه عظيم (يعي الزمان مكان نده) كما يقول البحتري لم نكن مبالغين. وقد جاء الى مصر قبل الثورة العرابية بزمن غير وجيز، وكان هو الذي هيأ النفوس واعد الاذهان ولما تلاها الى يومنا الحاضر، ولم يكن وهو بمصر يقصر همه عليها بل كان معنيا كذلك بتركيا وايران والافغان والهند وغيرها – واذا قلت تركيا فاني اعني الدولة العثمانية كلها بما كان يدخل فيها من بلاد العرب قاطبة- وقد اتصل في مصر برجال الدين والسياسة، وبث فيهم روحه، وكان له حلقة يلقي فيها دروسه الدينية، ومبادئه السياسية الحرة التي سبق بها كتاب الغرب الاحرار، وقد تولى عن المصريين مطالبة الخديو اسماعيل باعلان نظام الحكم الدستوري، والنصح للخديو توفيق باقامة حكم البلاد على قواعد الدستور، ولا كمنحة بل كحق، ولم يعلن الدستور، في ايامه، بمصر ولكنه هو اقصى عن مصر. ولما استقل السفينة، من مصر، جمع له لفيف من تلاميذه والمعجبين به مبلغا من المال يتسعين به وقدموه اليه، فابى ان يتقبله، وشكرهم وقال لهم كلمته المشهورة: اني كالاسد لا ادم قوتا اينما كنت. واشهر تلاميذه المصريين واعظمهم وارفعهم قدرا الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده، ومما يستحق الذكر لعظم دلالته على قوة شخصية السيد جمال الدين، ان الشيخ محمد عبده، كان يرى في الفترة التي سبقت الثورة العرابية، التدرح في الاصلاح حتى تنضج البلاد سياسيا لحكم نفسها بنفسها، وقد ادخل اصلاحات كثيرة في مصر في عهد وزارة رياض باشا الذي كان يثق به ويكله الى رايه، ثم قامت الحركة العرابية، وسارت باسرع مما كان ينتظر، وكان غرضها تحرير المصريين والتخلص من عناصر الترك والشراكسة المتحكمين المستولين على المناصب في الادارة والجيش. ومضت الى غايتها في جو من الدسائس الاجنبية والاطماع الدولية، فخشى الشيخ محمد عبده العاقبة، وكان بعيد النظر سديد الرأي، فتوقع اذا لج العرابيون فيما هم فيه، ولم يتحرزوا او يتوخوا الاعتدال، ان ينتهي الامر باحتلال الانكليز لمصر، فكان لهذا يقاوم العرابيين مقاومة شديدة وينعي عليهم قصر نظرهم وقلة تبصرهم، ويبسط فيهم لسانه، حتى ضجوا وهددوه بالقتل اذا ظل يعترض طريقهم ويناوئهم، واراد بعض العرابيين من اصدقاء الامام ان يصلح ما بينه وبينهم، وانا اعرف هذه القصة لان الذي حاول اصلاح ذات البين من اقربائي، ولان بيت جدي كان هو مكان الاجتماع، وتكلم العرابيون، وتكلم دعاة التوفيق، ثم تكلم الاستاذ الشيخ محمد عبده، فاصر على رأيه ان العرابيين باندفاعهم سيجرون على البلاد الاحتلال الاجنبي، فاخفقت المساعي المبذولة للصلح والتوفيق، وكان ابي من رجال الازهر، وزملاء الشيخ محمد عبده في الدراسة وتلاميذ السيد جمال الدين، وان كان لم ينبغ كما نبغوا، فسأل الشيخ محمد عبده قائلا: أكنت تلج هذه اللجاجة في عنادك مع العرابيين لو كان السيد جمال الدين في مصر؟. فكان جواب الشيخ محمد عبده هذه الكلمة المترعة: يامحمد (فقد كان ابي اسمه محمد) لو كان السيد جمال الدين هنا لما قامت الحركة العرابية ولا احتاج احد اليها، لان السيد يغن
الشخصية الجبارة
نشر في: 30 أكتوبر, 2009: 05:21 م