محمد مهدي البصير مر المصلح الكبير المرحوم جمال الدين الافغاني ببغداد قبل ستين سنة تقريبا، وكان عليها اذ ذاك والٍ يعد نفسه من العلماء، ويعده الناس كذلك من العلماء، وهو سري باشا صاحب التفسير المعروف (بأحسن القصص) فكان لجمال الدين على الباشا حق العالم وحق الضيف على المضيف
ولكنه لم يحفظ له حق العالم ولا حق الضيف ولا حق الانسان، وانما اخذ يلاحقه ويضايقه ويحصي عليه اقواله واعماله، وحركاته وسكناته، بل انه تعدى ذلك الى مطاردة اصدقائه واودائه الذين عرفوا فضله فأكرموا وفادته وادوا اليه بعض حقه فضاق المصلح الكبير ذرعا بهذه المعاملة السيئة وترك بغداد على جناح السرعة وفي قلبه حسرة وفي نفسه الم، وطبيعي ان سري باشا انما فعل ذلك حرصا على وظيفته وطمعا في المزيد من رضاء مولاه السلطان عبدالحميد الذي كان يلذ له ان يبطش ما وسعه البطش بكل مفكر حرٌ يرى ان الانسان خلق حراُ ويجب ان يعيش حرا، ويدين بأن الحكام اجراء الشعوب وانه حرام عليهم ان يؤثروا منافعهم على منافع رعاياهم، وان يقدموا مصالحهم على مصالح شعوبهم، وانهم ان فعلوا ذلك فقد عصوا ربهم وخانوا واجبهم وجنوا على الحق والعدل جناية لاتغتفر. وقد ضرب الدهر ضربته ودار الزمان دورته، فاختفى شبح السلطان عبدالحميد الى الابد ولم يبق من ملكه وجبروته واستبداده سوى ذكريات سيئة يسطرها التاريخ في شيء غير قليل من المقت والاشمئزاز، بل صارت دولة آل عثمان كلها خبرا من الاخبار. ومر السيد جمال الدين الافغاني ببغداد مرة اخرى فخرج رجال الحكم وارباب الحول والطول يستقبلونه في المحطة استقبالا فخما ويحيونه تحية الاعجاب والاكبار، ثم احتفلوا به احتفالا رسميا رائعا فألقيت في حضرته الخطب وانشدت القصائد معددة مآثره، ممجدة مفاخره مقدرة كل التقدير حسن بلائه وصدق جهاده في سبيل اقامة العدل ونشر الاصلاح، ورفع منار الحرية. وهكذا ينصر الحق ويهزم الباطل ويوفي المجاهدون الصابرون جزاء صبرهم وثواب جهاهدهم وان لم يطلبوا جزاء على صبر او ثوابا على جهاد، ولكن الله لايضيع اجر من احسن عملا.. جريدة الرأي العام 1945
الافغاني في بغداد
نشر في: 30 أكتوبر, 2009: 05:36 م