عبد الله المدني لم يستهوني شيء في رحلاتي وأسفاري الكثيرة إلى الشرق والغرب، قدر التجوال لساعات طويلة في الشوارع الخلفية للمدن، ففيها من الخفايا والأسرار والمشاهد الغريبة الماتعة ما لايراه المرء في الشوارع الرئيسية الفسيحة.
ففي الأخيرة لا تقع العين إلا على السيارات الفارهة والمجمعات التجارية الفخمة ومطاعم الوجبات السريعة المشهورة ومحال الأزياء والإكسسوارات الأنيقة، والعمارات الشاهقة الحديثة الحاضنة للمصارف و مكاتب المال والأعمال و اللوحات النيونية الضخمة المخصصة للدعاية للماركات العالمية من مختلف البضائع، و على أرصفة هذه الشوارع التي غالبا ما تكون مصقولة وممهدة ومزينة بالزهور، لا يصطدم المرء إلا برجال الأعمال المسرعين إلى مكاتبهم في ستراتهم الأنيقة وحقائبهم الجلدية الفاخرة. أما في الشوارع الخلفية والأزقة الضيقة فالمشهد ينقلب 180 درجة، حيث الأرصفة المكتظة بالبضائع الرخيصة، والجدران العشوائية المتشققة بفضل عوامل التعرية، والأسقف المكسوة بمواد البناء التقليدية، والأنوار الخافتة المنبعثة من محال أكل الدهر عليها وشرب وتثاءب ونام، وحيث تتجاور العربات التي تجرها الحيوانات مع تلك التي يقودها البشر، وحيث تمتزج أصوات الباعة المتجولين والصبية الصغار والعتالين بروائح الأطعمة الشعبية النفاذة مشكلة مشاهد فريدة في دلالاتها الزمانية والمكانية. في بومباي الهندية التي درست بها لبعض الوقت، كنت أنتهز أيام الاجازات الأسبوعية للذهاب والتجوال في شوارعها وأسواقها العتيقة – دونما اكتراث بتلوث الهواء والزحام – و خصوصا الأحياء التي كانت فيها لأجدادنا من رعيل خليج ما قبل النفط صولات وجولات، وذكريات عبقة، و مغامرات تجارية، ومعارك أدبية وسياسية. ولحسن الحظ فإن دور سكن و ضيافة وعبادة من تلك الحقبة لا تزال قائمة في بعض تلك الأحياء إلى اليوم رغم تقادم الزمن. من هذه الشوارع شارع "محمد علي" (نسبة إلى التاجر النهضوي الحجازي المعروف محمد علي رضا زينل صاحب مدارس الفلاح)، وشارع إبراهيم رحمة الله المتفرع من الأخير. ومن الأحياء: حي "مورتي بازار" حيث كان الرعيل الخليجي الأول يعقد صفقات بيع اللؤلؤ، وحي "بندي بازار" حيث لا يزال الخليجيون يترددون عليه كما في الماضي لشراء البخور والعود والحناء والمجوهرات والحراير وخيوط الزري ولوازم الأعراس، و حي "كروفورد ماركت"(تلفظ كرافت ماركت) الذي يعود بناؤه إلى عام 1869 والمسمى باسم البريطاني "آرثر كروفورد"، أول رئيس لبلدية بومباي، و منطقة "تشور بازار" أو "سوق اللصوص" حيث يمكنك العثور على ساعات الحائط والغرامفونات ومصابيح الكريستال وأطقم الشاي الإنجليزية العتيقة النادرة. أما في بانكوك التايلاندية التي عملت و أقمت بها كباحث خلال الثمانينيات، والتي لا يعرف سياحنا منها سوى شوارع الفنادق الفخمة مثل شارع "سيلوم"، أو أحياء اللهو والسهرات المبتذلة مثل حي "بادبونغ"، أو شوارع المجمعات التجارية الضخمة مثل "شارع سوكومفيت"، فلم أكن استهوي شيئا في أوقات الفراغ قدر التجوال في "الحي الصيني" أو الذي يطلق عليه التايلانديون "ياوالات". فهذا الحي - عدا عن كونه مكانا لشراء البضائع بأرخص الأسعار – فإنه المكان الساحر المليء بالغموض، والذي بأزقته الملتوية وقتامة مبانيه، واللغات المستخدمة فيه، يذكر المتجول بأحوال مملكة سيام في بدايات القرن 18 حينما جاءتها الهجرات الصينية الأولى للاستيطان والاستثمار. حيث لا يزال تجار الحي مصممون على مزاولة أعمالهم في محال بسيطة لم تغزها بعد تقنيات العصر فيما عدا الهاتف والراديو، بمعنى أنهم يفضلون المراوح الكهربائية أو اليدوية على أجهزة التكييف، ويفضلون كرات الإضاءة الصينية الحمر المتدلية في واجهات المباني على مصابيح النيون، بل أنهم يفضلون مزاولة أعمالهم في محال مشرعة الأبواب أي دون فترينات يعرضون فيها بضائعهم التي غالبا ما تكون من الأعشاب والأدوية الغريبة أو المنسوجات و الكماليات الصينية الرخيصة. في هونغ كونغ التي ترددت عليها كثيرا سائحاً والتي ظلت طويلا جوهرة يفتخر بها البريطانيون جزيرة صناعية ومالية مزدهرة ومستقرة، عادة ما يسترعي انتباه المرء منذ الوهلة الأولى، ناطحات السحاب العملاقة، والفنادق الفخمة في وسائلها وخدماتها وملاحقها، والمتاجر العملاقة التي تبيع آخر صيحات الموضة وأجود الأجهزة الالكترونية. ناهيك عن ملاحظة ثراء السكان – أو قل تمتعهم بدخول محترمة – الأمر الذي يستشفه المرء من ملابسهم ونوعية المركبات التي يقودونها والمطاعم التي يرتادونها. غير أن زيارة واحدة إلى الشوارع الخلفية في منطقة "كولون"، تقنعك بوجود عالم مواز مختلف اختلافا جوهريا. فكولون لا تزال تحتفظ بنكهة هونغ كونغ الصينية الأصيلة سواء لجهة زحام البشر وتداخل الطرقات وانحداراتها المهيبة وتلاصق المباني بعشوائية غريبة، أو لجهة أصوات الباعة العالية المتداخلة وبضائعهم الر
رحلات: الشــــــوارع الخلفيــة
نشر في: 1 نوفمبر, 2009: 05:06 م