بلند الحيدري لم يكن ثمة شيء يلفت نظر الوافدين في الاربعينيات، ويثير عجبهم واعجابهم كمنظر المقاهي المنتشرة في كل شوارع بغداد وازقتها، وكمنظر اسواقها كسوق الشورجة الخاصة ببيع التوابل ومؤنة البيت، وسوق الصفارين حيث تصنع الأواني النحاسية، وسوق السراي التي تمتد على جانبيها دكاكين بائعي الكتب القديمة منها والحديثة، والتي تمد بنفسها الى اسواق اخرى. وقد وعيت اثر المقهى في حياتي وانا في سن مبكرة، اذ كنت اهرب اليه من المدرسة مع بعض زملائي في الدراسة المتوسطة،
وكان مقهانا المفضل آنذاك هو مقهى (البلدية) وباثر من كونه المقهى الوحيد الذي كنا نستمع فيه الى اغاني ام كلثوم ومحمد عبدالوهاب، وكل زبائنه كانوا على مثل هوانا في حبهم لهذه الاغاني وربما كان هو المقهى الذي استوحاه بدر شاكر السياب في قصيدته (اغنية قديمة) حيث يقول في مطلعها: في المقهى المزدحم النائي.. في ذات مساء وعيوني تنظر في تعب في الاوجه والايدي.. والارجل واللهب والساعة تهزأ بالصخب وتدق.. سمعت ظلال غناء اشباح غناء تتنهد في الحاكي وتدور كإعصار بال، مصدور يتنفس في كهف هار في الظلمة منذ عصور واذا ما استثنينا هذا المقهى بمرمى من تلك الخصوصية، واستثنينا معه مقهى قريبا منه هو مقهى (الدفاع) المقابل لوزارة الدفاع حيث كنا نؤمه من حين لاخر لنلعب الشطرنج فيه، او لنتحلق حول لاعبي الشطرنج المعروفين الذين كانوا من رواده الدائميين، اقول اذا استثنينا هذين المقهيين، يمكننا ان نصنف مقاهي بغداد الى صنفين مختلفين لحد ما هما مقاهي (الطرف) او (المحلة) ومقاهي الشوارع الرئيسية، وتتوزع مقاهي الصنف الاول منهما النواحي المحيطة بمركز العاصمة، وحيث تتقاسم مساحاتها المفتوحة منها والمسقوفة، مصاطب خشبية تخت- وطاولات مستطيلة ومربعة، تتوسط ما بين تلك المصاطب ولا يتجاوز ضلع اي منها المتر الواحد، ويقتصر جمهورها على ابناء المنطقة، وجلهم من الطبقات المتوسطة او دونها، فبيوت مثل هذه الطبقات لم تكن لتوسع ابوابها لغير الاقارب والاصدقاء الحميمين جدا، وضمن زيارات عائلية، اما اللقاءات الاخرى فليس لها غير المقاهي، وحيث تمتد فيها الجلسات الى ساعات متأخرة من الليل، وقد اختلطت اصوات النرد والدومينه بأصوات المعلقين على لعب اللاعبين، وبقهقهات الضاحكين وصخبهم، وبأصوات ملاعق الشاي في الفناجين واحيانا بصراخ المتشاجرين والذين سرعان ما يلتف الجالسون حولهم لحل النزاع، والذي يكون عادة قد بدأ من ملاحظة عابرة حول خطأ في لعب النرد او الدومينه، او بأثر من طرفة قال بها احدهم فحملها الاخر على غير محملها، او بسبب من تعصب احدهم للنازيين او للانجليز، حتى اذا نجحت الوساطة عاد الصفو اليهم وتعانقوا، واستمروا في الذي كانوا فيه. ولا تشذ عن هذه الخصوصية غير بعض مقاهي (الطرف)، اما بسبب من انها صارت المقر المعروف لهذه الشخصية الادبية او تلك الشخصية الرياضية او لغيرهما من اهل الفن، او لانها جاورت مؤسسة معينة فلزمها العاملون فيها، او لانها اصبحت ملتقى لنخبة من الادباء الشبان الذين لمعت اسماؤهم في اواسط الاربعينيات، وحيث يكون لهم ان يتحلقوا كل مساء حول احدى تلك الطاولات الخشبية الصغيرة ليواصلوا ما ينز من بين ركام الحرب العالمية الثانية. ومن تلك المقاهي، مقهى صيفي يقع على مقربة من الجسر الخشبي القديم الذي يشد مابين منطقة (الاعظمية) ومنطقة (الكاظمية) وقد تعودنا ان نرى الشاعر العراقي الكبير (معروف الرصافي) يقطعه مشيا على قدميه، من الاعظمية الى الكاظمية، ليأخذ فيه مقعده الذي سرعان ما يتحلق حوله عدد من اصدقائه وبعض من اساتذة الادب وعدد من الشعراء والادباء الشبان، اليه بعض نتاجهم على امل ان يحظوا بكلمة منه فيها، ولم يكن امر ذلك يسيرا، فمحدثوه كثر واهميتهم اكبر من اهميتهم، وما لديهم كثير، وهيبة الرصافي الجدية، وطبيعة جلسته وانتشار عباءته واستقرار كوفيته وعقاله على رأسه وضخامة صوته، ليس من اليسير اختراقها بالنسبة لهؤلاء الشبان، وقد يحدث ان يتجزأ واحد منهم فيمد بيد مرتجفة قصيدته اليه وهو يهمس متلعثما وراجيا ان يقول رأيه فيها، فيأخذها منه بتثاقل، ثم يلقي بنظرة عجلى عليها ثم يعيدها الى صاحبها من دون اي تعليق، فيكتفي الشاعر الصغير المسكين بسكوته تعليقا عليها ويردها الى جيبه خجلا ويغادر المقهى. واذا كان الرصافي كذلك بأثر من كبر سنه واوجاعه واوضاعه، فهو رغم ذلك كله وفي كثير من الاحيان على جانب كبير من الظرف وسرعة البداهة، واذكر مرة ان صبيا دلف الى مقهاه وقد تأبط رزمة من الاوراق، فما ان وقعت عينا الرصافي عليه وهو يتوجه اليه حتى ادار وجهه فينا وهو يقول (أعوذ بالله.. هذا هو تأبط شرا) وكان الامر كذلك اذ ما كاد لهذا الصبي ان يأخذ مقعده بيننا الا واستل كما من تلك الاوراق، مستأذناً الرصافي في ان يسمعه بعض شعره، وقبل ان يأذن له، راح صوت صاحبنا يلعلع في ارجاء المقهى بكلام لاطعم للشعر ولا للنثر فيه، فالتفت اليه متسائلا وبكثير من الجد (أأنت وحدك كتبت هذه القصائد العصم) فيرد عليه الصبي وقد افترشت وجهه ابتسامة فرح كبير (والله والله يا استاذ انا وحدي كتبتها كلها.. كلها من بطني انا). فيربت الرصافي على كتف الشخص الذي يحاذيه وهو يقول اكيد انها من بطنه الم تشم رائحتها فننفجر بالضحك دفعة واحدة وينسحب الصبي حانقا ولاعنا. ولم تدم لقاءاتنا به في هذا المقهى الا لفترة قصيرة من الزمن، فقد اعتلت صحته كثيرا، وانقطع عنه وعنا، ثم كان ان غاب عنا ف
بغداد بين مقاهي الأدباء وأدباء المقاهي
نشر في: 1 نوفمبر, 2009: 07:01 م