شــاكـــر الأنــبــــاري عبر عنوان ديوانه المثير طغراء النور والماء، الصادر عن دار المدى عام الفين وتسعة، يدخلنا الشاعر عبد الزهرة زكي الى جو صوفي مشغول بعناية، على صعيد الكلمات والصور والحدث الشعري، مرتدا الى قرون سابقة بلغتها الصوفية المتكسرة على لسان العارفين دون أن تفصح كلية عن القصد.
بهذا وكأنه يروم تمثيل بغداد بأجواء ورموز وإيحاءات في نهار عباسي مر ذات يوم على شواطئ دجلة. ونحن مع كلمات توحي بكل ذلك مثل بخارى، والقيان المجلوبات من روما، والتاجر من انطاكية، والخمر، والعود، والموجة المتصاعدة من تحت شط الرصافة، وعبيد زنجبار. الألوان والموسيقى والسم والإبريق، وغير ذلك من مفردات تستجيب لانتقائية الشاعر واقتصاده في صناعة القصيدة، سواء من خلال نصه الطويل نهار عباسي، أو من خلال بقية الأبواب الثانوية التي سماها رواية الهدهد، ولكنه قطعها الى لحن غامض، وحينما سها الملاك، وتربية الذئاب، ومثل موجة سوداء، والطير نافقة في قلب الناي، ومن منمنمة الغلاف، وغيرها من عناوين مثيرة تهمس الى قارئ يفاجأ بتلك الضراوة بالانتقاء والصمت والاقتصاد في التعبير. وبرغم ان عبد الزهرة زكي من جيل السبعينيات، وكانت له بصمة مميزة بين ذلك الجيل، لكنه لم يصدر قبل هذا الديوان سوى ثلاثة دواوين طوال مسيرته الشعرية، وهي: اليد تكتشف، وكتاب اليوم، كتاب الساحر، وكتاب الفردوس. طغراء النور والماء يضج بروح صوفية، حنونة، كما لو كانت تتسامى عن وقائع مبتذلة او قاسية، حيث النص يبتعد عن وقائع مثل تلك ويطير بجناحي هدهد أو قبرة أو بومة، نحو سماء تجلت ذات يوم في المدينة العباسية الثرية بعرافيها ورهبانها ولغاتها وميولها الاعتزالية خوفا من تسرب حياة مشبعة بالتلوث والابتذال (انت التي تصف/ وهي التي تصغي/ تصغي فتغمض عينيها/ وتصغي/ حتى يشف قميصها عن نهديها/ وعن قلبها/ بوجيبه الساخن/ فتذوب/ فتنام/ اصبعك تضرب في العود/ وخاتمك/ يقلب كتابا في التنجيم.). كان زكي اذا يهندس مشهده الشعري كي ينتظم في غواية القص. يستلهم، تماشيا مع تاريخ بغداد، كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار، أو مثنويات جلال الدين الرومي، رابطا لغته ومشهديتها الشعرية والقصصية بتلك النهارات الصوفية المذهبة، التي كانت خلال قرون تستلهم الحكمة من الطير، والحجر، واللون، والحرف، ورنة العود. ويربط كل ذلك مرموزات تتكرر في ثنايا القصائد، مسبغة عليها مذاقا واحدا، أو يكاد، من حكمة وفلسفة وتسام روحاني وغوص في تاريخ المكان. والمرموزات هي البومة والهدهد والملاك والنسرين والشمس. ففي باب رواية الهدهد يقول: كانت البومة تغني/ وكانت أوراق النسرين تنحل غبطة/ فتأخذها الريح والمياه/ في ذلك النهار/ حيث لم يعد ثمة نسرين/ اختفت البومة/ وظل الجبل يردد أغنية البومة/ وهي تتكلم عن وحشة النسرين. ورغم روح القص المباشرة في قصائد الديوان، الا أن صناعة النص واضحة، تستمد من حيوية الذهن وثقافته أكثر مما تستمد من ملموسات الحواس للشاعر، وعبر آلية كتابية مثل تلك تتكسر علاقات المنطق في المشاهد، ويغسل الذهن بمدلولات التاريخ ورموزه وأجوائه، مما يخلق نكهة مميزة للغة الشعرية، يخرجها عن الكتابة السائدة. مع ان غواية مثل تلك تحرم الشاعر من ثيمات غزيرة في بغداد الحاضر، قصصها وعذاباتها، تفاصيلها ومرموزاتها، عدا عن امكانية شاسعة لتواصل القارئ المعاصر مع نص الشعر هذا. لكن الموجة تبقى سوداء حسب النمط الارتكاسي لزكي، ويبقى الحنين دائما الى الماضي. ماضي القيان والمعتزلة وطغراء الضوء وعيون المها وناي العارفين وهو يتجول في سوق الصفارين وشارع الرشيد وساحة عبد القادر الجيلي وباحات المستنصرية، ذاهلا عن كلام الناس، لولا الوسواس، وضربة الموجة السوداء. وهو يحاور نفسه فقط: (اصبع من هواء/ وشفتان تطبقان على الناي/ من الناي تطير موجة سوداء/ اصبعه هنا وشفتاه هناك/ هنا وهناك/ بعيدا عنه/ عن الملاك يرى صورته ترف/ مثل موجة سوداء تتلوى على التراب.). عبد الزهرة زكي في ديوانه هذا لا يريد أن يدهش أحدا، ولا يريد أن يثير زوبعة شعرية، بل يحاول أن يغني لنفسه، حسب تعبير والت ويتمان. لكن العراقيين في هذه السنين العجاف لا يرغبون في سماع أحد، لا شاعرا ولا مفكرا، لا خطيبا ولا مفوها، لذا يطيّر نصه الى الأفق البعيد، خارج الخارطة، ومن دون أمل.
طـــــغــــــراء الــــنــــــــور والـــــمـــــــاء: روح بغداد الحنونة حين تتسامى ع
نشر في: 2 نوفمبر, 2009: 05:00 م