سعد محمد رحيم من أين جاء كارل ماركس بهذه التركيبة المتشعبة والمعقدة من الأفكار المبدعة؟ من أين استقى، وأيضاً، ابتكر طقماً من المفاهيم المترابطة والمتماسكة التي لن تكون دليل عمل نضالي للطبقة البروليتارية الأوروبية، وغير الأوروبية، في القرن التاسع عشر والقرون التالية، وحسب،
وإنما زاداً معرفياً، كذلك، لأجيال من الفلاسفة والمنظِّرين في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية المختلفة، ولقوى وأحزاب ومؤسسات سياسية وعلمية وأكاديمية شتى؟ ما هي المواد النظرية (المعرفية) الأولية، ومعطيات التجارب الخام التي استثمرها في بناء منظومته الفكرية الجبارة؟ ما هي المنعطفات الحاسمة في تطوره الفكري؟ ومن هم المفكرون الذين ألهموه أكثر من غيرهم؟ وبعبارة أخرى: كيف تكوّن هذا الوعي الحاد بالواقع والتاريخ، وهذه القدرة المنهجية على رصدهما واكتشاف قوانين حركتهما؟ كيف نضج، إلى هذا الحد المذهل، ذلك العقل التحليلي ـ التركيبي ليؤسس مدرسة سياسية ـ فكرية تكون لها أعمق الأثر في فكر العقود والقرون اللاحقة، وليبلور منهجاً علمياً بالغ الفعالية والخصوبة سيُحدث انتقالة نوعية في حقول العلوم الاجتماعية كافة؟. بدأ ولع كارل بالقراءة، بتشجيع من والده، منذ سني طفولته الأولى. وكان صبياً حين غرس فيه البارون لودفيغ فون فستفالم (صديق والده، ووالد زوجته جيني، فيما بعد) حب الشعر والموسيقى. وفي أثناء جولات السير في حدائق هامستيد هيث الساحرة.. كان البارون (فستفالم) ينشد مقاطع شعرية لهوميروس وشكسبير ودانتي وغوتة وكان الشاب (كارل) يحفظ عن ظهر قلب. في 25 أغسطس/ آب 1835 تخرّج كارل ماركس من كلية تريير (مسقط رأسه)، وليست ثمة معلومات كافية عن صداقاته وقراءاته في هذه المرحلة من حياته. وتؤكد شهادة تخرجه، بتوقيع مدرّّسيه، على قدرته في "فهم وتفسير أكثر الفقرات صعوبة في المواد الكلاسيكية، وخاصة تلك الفقرات التي تكمن صعوبتها، لا في غرابة لغتها، بل في موضوعها وعلاقات الأفكار فيها". ودرس ماركس الحقوق، في عام 1835، في جامعة بون، ومن ثم في عام 1836 في جامعة برلين، من غير أن يهتم كثيراً، أو يحضر سوى محاضرات محدودة (إلزامية) في الحقوق والتاريخ والفلسفة. لكنه اكتسب ثقافة ثرية وعميقة من خلال قراءاته، إذ لم تكن بوسع جامعة في حينها أن تشبع نهمه إلى المعرفة، أو ترضي عقله الخارق، وذكاءه الوقّاد. وعلى الرغم من يفاعته كان يتعاطى مع الأفكار بعدِّه مفكراً مستقلاً، غير أن هاجساً آخر كان يسكنه هو هاجس الأدب والشعر. وقد أنجز ثلاث كراسات أدبية، وهو لما يزل طالباً، أهداها لخطيبته جيني (زوجته لاحقاً) هي ديوان شعر ومسرحية شعرية ورواية بعنوان (العقرب وفيلكس). وسيدرك سريعاً أنه غير مؤهل لكتابة الشعر وإنما لشيء آخر. وقد استفاد من موهبته الأدبية في تدوين أفكاره الفلسفية والسياسية، فجاءت دراساته ومقالاته ذات لغة جذابة وطراوة وجمال في التعبير والأسلوب. فرفعته، كما يقول كاتب سيرته فرانز مهرنغ "القدرة الرمزية التي تتمتع بها لغته إلى مصاف أعظم الأدباء الذين كتبوا بالألمانية، وكان يعلّق أهمية كبيرة على التناسق الجمالي في كتابته". لم يكن ماركس اليافع يستقر على حال.. انتقل من الشعر إلى الحقوق إلى الفلسفة.. ترجم كتابين من كتب جوستينيان القانونية إلى اللغة الألمانية، وحلم بوضع فلسفة للقانون. وهذه المعزوفة المشؤومة، مثلما يسميها، استهلكت منه ثلاثمئة دفتر. وعرّج إلى الفلسفة ونصب عينه وضع نظام ميتافيزيقي جديد، قبل أن يتنبه إلى أن جهوده تذهب سدى. وكان يقوم بتلخيص الكتب التي يقرؤها خلال سنوات دراسته، مع تدوين أفكاره وملاحظاته حولها. "قرأ لاوكون بقلم لسنغ، وغيرفن بقلم سولجر، وتاريخ الفن لوينكلمان والتاريخ الألماني للودن...كذلك ترجم جرمانيا لتاسيتس، وبدأ تعلم الإنكليزية والإيطالية بمفرده.. ثم قرأ القانون الجنائي لكلاين، وكذلك الحوليات. كما قرأ كل الإنتاج الأدبي الحديث". كانت الانعطافة الأولى المهمة في التطور الفكري لكارل ماركس هو تعرّفه على أعضاء نادي الهيغليين الشباب وانضمامه إليهم في غضون ثلاث سنوات بعد ربيع 1838. وفي هذه الآونة كانت الفلسفة الهيغلية هي الفلسفة الرسمية للدولة البروسية. وقد تأثر ماركس بشكل كبير بأعضاء في النادي منهم برونو باور المحاضر في جامعة برلين، وكارل فردريك كوبن الأستاذ في مدرسة دوروثين الثانوية، واللذان رأيا في ماركس شاباً (عمره 20 سنة وكانا يكبرانه بعشر سنوات) ذو موهبة، وملكة فكرية متفوقة. وفي النهاية أغضبت فجاجة السلوك والروح الاستعراضية لمجموعة الهيغليين الشباب ماركس فبادر إلى انتقادهم بقسوة قبل الانسحاب من حلقتهم. فعاب عليهم عدم تفحصهم "المقدمات الفلسفية لنقدهم، فلو إنهم فعلوا ذلك، لأمكنهم، عندئذ، استيعاب فلسفة هيغل". كان على ماركس أن يتحرى عن جذور الفلسفة الغربية. أي أن يمعن في دراسة نتاجات الفلاسفة الإغريق (الشكوكيون والرواقيون والأبيقوريون) وعلاقتهم بالفلسفة الإغريقية التأملية، فقدم رسالته للدكتوراه إلى جامعة يينا باحثاً في الفروقات بين الفلسفة الطبيعية عند أبيقور ومثلها عند ديمقريط. وكان ديمقريط مادياً، وفي إطار فلسفته حدد
مصادر ماركس (1-2)
نشر في: 6 نوفمبر, 2009: 04:12 م