ولدت في سنة 1930 في قرية فقيرة وبسيطة اسمها قصابين، في منطقة اللاذقية قرب مدينة جبلة. قرية تذكر ببدايات الخليقة: أكواخ من الحجر والطين سميناها بيوتا وسط يتمازج فيه الشجر والبشر، وليس جسد الإنسان إلا الشكل الآخر لجسد الطبيعة. كان طين بيتنا يتشقق موسميا،
وكنا، في كل موسم، نكسوه بطين جديد، لكي يقدر أن يصمد في وجه المطر والريح والزمن. السقف: قضبان خشبية تغطى بنبات شوكي، يغطى بالتراب، ومن ثم تكسى بالطين لكي لا يخترقه المطر. مع هذا كثيرا ما كان المطر يتسلل عبر شقوق غير منظورة، ويسقط نقطة نقطة فوق رؤوسنا جميعا، أبي وأمي واخوتي، وفي جميع أنحاء البيت، فيما نجلس للراحة أو للطعام أو فيما ننام. هكذا نشأت كأنني شجرة أو نبتة. ولم يكن البيت إلا حاجزا واهيا بيني وبين عشب الطبيعة حين تعصف أو تمطر، أو رضاها حين تهدأ وتصحو. كان بيتا ضيقا. لذلك أقام أبي سريرا من خشب واسعا ننام فيه جميعا، على أعمدة عالية من الخشب. كان هذا السرير بيتا صغيرا داخل البيت، ودون أن يأخذ من مساحته شيئا، إذ كنا نستخدم المساحة تحت السرير لأغراض كثيرة. وفي الشتاء البارد كانت تنام تحته بقرتنا الوحيدة الطيبة، وصديقها ثورنا الوحيد الذي كان هو أيضا طيبا. كنت أذهب كل يوم حافي القدمين إلى معلم القرية، الشيخ، أي ما يسمى ."الكتاب"، لأتعلم القراءة والكتابة. كان يجلسني قربه، ويضع في قدمي الرأس المقوس لعكازه، كأنشوطة تمسك بي وتحول دون أن أغافله وأهرب إلى التسكع في الحقول، كما كنت أفعل، حينما تسنح لي الفرصة. حتى الثانية عشرة من عمري، لم أعرف مدرسة بالمعنى المتعارف عليه. فلم تكن في منطقتنا مدارس حكومية. وكانت أقرب مدرسة إلى قريتنا تبعد مسافة طويلة لا يقدر طفل في سني أن يجتازها مرتين، يوميا. وحتى هذه السن، لم أشاهد سيارة، ولم أعرف الراديو، ولا الكهرباء وطبعا، لم أعرف المدينة. وبدأت باكرا باكتشاف جسدي، في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، حيث تلقنت دروسي الأولى في كيفية اللقاء بين ذكر وأنثى. كان ذلك ليلا، في واد صغير، وراء القرية، وهي التي أخذتني إليه. بعد هذا الحدث، صرت، أحيانا، أدعك جسدي بأعشاب الأرض، وألامسها كأنني ألامس جسد امرأة. بعد أن أنهيت تعلم الكتابة والقراءة عند شيخ قريتنا في "الكتاب"، قرر أبي أن يرسلني إلى تلك المدرسة البعيدة. وأطمأن، رغم قلق أمي، حتى أن تلميذا آخر يكبرني سنا سيذهب معي. كان هذا التلميذ ابنا لمختار القرية، يوسف الكعدي، وكان اسمه عباس. صداقة النهر وفي أحد أيام الشتاء، عدنا من المدرسة إلى قريتنا، تحت مطر هائل لم ينقطع، طول الطريق. وصلنا مع غروب الشمس إلى النهر الذي يفصل بين قريتنا والقرية التي توجد فيها المدرسة واسمه نهر الشدة وكان كمثل البحر يهدر صائحا عباس لا. لا تنزل. النهر عميق، سيغمرنا بالماء، سنغرق. الأفضل أن ننتظر ربما توقف المطر، وخف الفيضان. - لا يزال هناك ضوء إذا حل الليل، لا يعود بإمكاننا العبور وربما ازداد الفيضان. إنه يجيء من مطر الجبال، لا من هذا المطر الذي ينهمر علينا. نعبر الآن، أو تعود إلى المدرسة. كان الوقت غروبا، تكاد كثافة الغيوم أن تساويه بالليل. وكنا عائدين، عباس وأنا، من أقرب مدرسة إلينا في قرية يفصلها عن قريتنا هذا النهر، نهر الشدة أو الشذة، لا أعرف. لم أكن رأيت من قبل مطرا مثلما كان في ذلك اليوم. لم أكن رأيت النهر في مثل فيضانه هذا. وكان عباس الذي يكبرني ببضع سنين يريد، كما خيل، أن يثبت شجاعته، لا أمامي، بل أمام قريتنا والقرى التي تجاورها. لم يصغ اليه أخذ ينازع تموج النهر، يقدم رجلا، ويؤخر الثانية، كأنه يفحص اندفاع المياه وقرار النهر. وبدا المطر غزيرا ملحا ينهمر من غيوم تكاد تلامس أكتافنا، في صخب هائل من الرعد. - لن نغرق. هات يدك. امسك بي جيدا. لا تخف. لم يكن لي خيار. أخذت يده، ولم أكد أمسك بها، وأضع قدمي في النهر حتى رجني الماء. وأخذ يغمرني، صدري، كتفي، حتى عنقي. أسلمت نفسي للنهر، وليدي عباس. ، قليلا، ونصل إلى الضفة الثانية. قليلا. لكن الفيضان كان يعلو. والمطر يشتد. لم أصدق أننا وصلنا إلى الضفة الثانية. وحين تجاوزنا الخطر، ووضعنا أقدامنا فعلا على الجهة الأخرى من النهر، فوجئت بعباس يصمت، ويمتلئ وجهه بملامح غريبة لا تعرف أهي خوف أم فرح أم مزيج منهما معا. كأنه أدرك لتوه أن عبورنا النهر كان نوعا من جنون الطفولة البريء. كأنه أدرك أننا نجونا من الموت بقدرة ليست فينا. كأنه تدارك تهوره: كيف لم يحسب أي حساب للنتيجة الأخرى التي كانت ممكنة جدا، عنيت الغرق والموت؟ نجونا وغرقت كتبنا ودفاترنا وكان وصولنا إلى القرية عيدا. هذا النهر الذي كاد يأخذني معه إلى سرير النوم الأبدي، هو نفسه الذي كان يأخذ أيام طفولتي بين أحضانه، غدرانا، و مغاور، صخورا وأعشابا، أشجارا ونباتات كانت الألوان على ضفافه تتنوع وتتدرج، وكنت أمنحها عيني كأنني أمنحها للحلم كنت أشعر أن وجودي بينها ليس إلا صورة، مزيجا منها جميعا. كانت طفولتي تنسما لمجرى النهر، لضفافه، ولما حولها، ولما تحتضنه. كان طيف يمسك بيدي، ويجري معي، نجلس تارة على صخرة، ونخوض تارة مني مائه المحمول على بساط من الحصى والرمل وكنا نتمرأى في
هكذا تكلم ادونيس
نشر في: 6 نوفمبر, 2009: 05:16 م