علي حسن الفوازلماذا تتحول اوراق ادونيس الى اعترفات ثقافية؟ ولماذا يبدو ادونيس دائما بزيه الشعري حكيما في الكتابة، عارفا ان لاطرق للحرير ينصرف اليها الكاتب سوى طريقه الموحش، طريق الكشف والتعرية؟ لماذا تبدو هذه الكتابة وكأنها محاولة في اعلان البراءة من المهيمنات الطاغية في التاريخ والسياسة والاخلاق والمقدس؟
لماذا يعلن ادونيس نفسه ناقدا ساخطا محتجا مرعوبا من التاريخ والخطاب والمكان والحرب؟ لماذا ينظر الى المنفى بعين المثقف دائما وليس بعين السياسي او المهاجر؟ لماذا يرتاب كثيرا بالقصيدة اليومية، القصيدة التي يمكن ان ترمم انكسارات الوجدان الثقافي ازاء صدمات الرعب اليومي العميق الاثر والوجع؟ هذه الاسئلة الفادحة وغيرها هي محور كتابه الجديد( رأس اللغة وجسم الصحراء) الصادر حديثا عن دار الساقي. والذي يحاول من خلاله ان يمارس افتراسات وعيه القرائي الاستثنائي، وعيا لارياء فيه ولا خشية من الاعتراف بتلمسه الحاد الكثير من اسئلتنا الثقافية. الكتاب يجمع عديد المقالات والتأملات والافكار التي انحنى عليها ادونيس خلال السنوات الاخيرة، تلك التي سجل فيها انشغالاته بازمة مايراه المثقف العربي للوجود والعولمة والحرية والدين والحرب وحوار الثقافات او تقاطعها، واشكالات وعيه داخل فضاءات الشعر وطروحاته التجديدية، فضلا عن اشكالات ما يجسّه في الزمن الثقافي من حساسيات وغوايات، تلك التي تنعكس على علاقة المثقف بتداعيات وعي لهذا الزمن وازماته، وكل متعلقاته ازاء(مستبدة) المكوث في الكتابة والاجراء وفي نظره الى التاريخ وما تفترضه من سجالات ساخنة، تلك التي كانت سببا في اتهام ادونيس ذاته بالمروق عن الملة كما وصفه احد فقهاء السلفية ذات مرة..الكتاب يبدأ بالموجّه الاول الذي تحدده لوحة الغلاف لادونيس، هذا الموجه هو اعلان عن جوهر فكرة ادونيس عن الخطاب الثقافي الذي يمثله ادونيس بعد هذه الرحلة الطويلة، رحلة الذات الى المعرفة، والاخر، رحلة نحو الهوية ونحو خلافها..نحو المزيد من تاريخ طويل من المقدس والرمز والغموض والصحراء المعرفية والانسانية التي جعلت الشاعر والمفكر لايملك الاّ(رأس اللغة، ليواجه جسم الصحراء).. ضم الكتاب اربعة ابواب وملحقا بجزءين الباب الاول/المنفى المتحرك. الباب الثاني/ترحال في احضان المنفى. الباب الثالث/لغة ابعثها الكلام. الباب الرابع/دار جديدة ومدار جديد لحروب العصر.. الملحق ضم جزءين(صداقات، توضيحات، مناقشات)و(اقسم جسمي في جسوم كثيرة)، حديث ادونيس عن المنفى له اكثر من دلالة، اذ ينظر اليه على انه فعالية اغتراب قابل للتحول، وهذه النظرة هي ذات النظرة الى(النص) الذي يعده خاضعا للتحول، وخاضعا للقراءة المتعددة، وقابلا للتلاقح والانزياح. يقول ادونيس(المنفى ليس مسالة جغرافية، وانما هو مسألة ثقافية) وكأنه يضعه كمفهوم امام توصيف اشكالي يثير الكثير من الاسئلة، خاصة في التعاطي مع موضوعات المنافي العربية، تلك التي تحولت الى مناف سياسية وايديولوجية وجسدية سحبت معها بالضرورة الجغرافيا التي صنعت للمثقف ارباكا عميقا في نظره الى الامكنة. اذ باتت امكنة المنفى اكثر تعويضا من الامكنة(الوطنية)التي ارتبطت بالقمع والقهر والاستبداد والمهانة. وهذه القراءة العميقة للمنفى لايمكن اغفالها عن ظاهرة(ادونيس)ذاته فهو كائن ثقافي خاضع منذ اكثر من نصف قرن الى توصيف المثقف المنفي، المنفي في وعيه واسمه ولغته وقراءته المتمردة والمتحولة الى تاريخ(الثابت) في منظمتنا الثقافية العربية.. مفهومه للمنفى قاده الى مواجهات حادة مع اصوليات وسلفيات تضع التحول بمثابة الخطيئة، وتنظر الى التفكير خارج السياق بنوع من الارتياب الباعث على الشك..هذا ما يضع طروحات ادونيس الخلافية امام اجتهاد قرائي اخر، اجتهاد يضع النص في فضاء ثقافي خلافي تماما، خلافي في نظره الى حياتنا وازماتنا وخساراتنا، وانماط ثقافتنا العاجزة عن انتاج فاعليات للحداثة، اسئلة تلامس الخبيء والمضمر، لكنها تملك القدرة على تحريضنا لاعادة النظر في مفاهيم السلطة والحرية والمعرفة والتحضر والعلاقة مع الاخر(العدو والصديق) وبناء قواعد مادية للتنمية والاقتراب من المستقبل..كل مافي ثقافتنا هو(الماضي) وان ازمة الثقافة تكمن في تكريسها للدفاع عن الماضي ضد المستقبل. هذا المستقبل صار مثارا للريبة والالتباس والتفقه في علومه وشروطه وقياساته، والذي ينكشف كل يوم على قيم جديدة تحتاج بالضرورة الى وعي جديد والى مجتمع جديد والى تعليم جديد والى فاعليات تؤمن بالتعدد والبناء الديمقراطي ونبذ الديكتاتوريات والثيوقراطيات، تلك التي انتجت لنا طول قرون ثنائيات خالدة للرعب والاستبداد والتابعية، بين حاكم ومحكوم وتابع ومتبوع ومالك ومملوك وغيرها.. وطبعا هذه الثنائيات انتجت لنا سلطات قامعة وثقافات مقموعة، وتاريخ طويل من ثقافات التوريات والمسكوت عنه.. في قسم اخر من الكتاب يتحدث ادونيس عن(الكتابة العربية) باعتبارها الخزان السري والعلني للافكار، فهو يقول انها(كتابة مستنفدة سلفا) أي انها تقف عند حافة الخواء، كتابة تعيد نفسها، لان المثقف الذي يصنع الكتابة هو جزء من النظام الاجتماعي الثابت، وان الثقافة هي خطاباته العالقة بازمات السياسة والسلطة والتاريخ.. هذا النظر الى الكتابة يقرنه ادونيس
أدونيس..رأس اللغة وفداحة الاسئلة
نشر في: 6 نوفمبر, 2009: 05:17 م