TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > قداس متأخر.. الى يوسف شاهين

قداس متأخر.. الى يوسف شاهين

نشر في: 13 نوفمبر, 2009: 04:03 م

محمد علوان جبرحقا انه قداس متأخر، أقيم الى سيد القداسات الجميلة، واكثـرها رسوخا في الذاكرة الشعبية العربية والعالمية، قداس عله استطاع ان يوثق مسيرة رجل عبر اطول رحلة من رحلات العلامات المهمة في تاريخ الجماليات. - ربما هو قداس متأخر او - ربما هو العكس..!
 لكنه أقيم أخيراً وسط دموع الأحبة الذين تحلقوا حول نعش رجل لم يختلف احد على اتساع وعمق عبقريته السينمائية وتفرده بنمط وأسلوب إخراجي خاص به. حيث كانت أفلامه علامة مهمة من علامات السينما العربية ولا أغالي اذا قلت العالمية، حيث تنوعت موضوعات هذه الأفلام وكذلك سبل تناولها، فيوسف شاهين الذي درس الفن السينمائي في أمريكا اهتم كثيراً في ان يشكل له مدرسة سينمائية خلقت منه شخصية متفردة في كل شيء.. حيث بدأت هذه الرحلة منذ فيلم "باب الحديد" وتلاها فيلم "الارض" و"المصير".. وفيما بعد اكتنزت وتنوعت مضامين أفلامه فمنها ما تناول موضوعة الصراع الطبقي كما في فيلم "صراع في الوادي" و"الارض" و"عودة الابن الضال" ومنها ما تناول موضوعة الصراع الوطني والاجتماعي كما في فيلم "جميلة بوحيرد" وفيلم "وداعاً بونابرت" وكذلك موضوعة سينما التحليل النفسي المرتبط بالابعاد الاجتماعية كما في أفلام "باب الحديد" و"الاختيار" وفجر يوم خاص" والتي اعتبرها النقاد من أهم تجارب شاهين السينمائية. اما المحطة المهمة في رحلة شاهين السينمائية فكانت أجاز لنا التعبير ان نسميها – بسينما الذات – او سينما السيرة الذاتية التي كانت تتحدث عن سيرته الذاتية والتي كان اولها فيلم "اسكندرية ليه" إنتاج عام 1978 الذي ركز على تحقيق الشخصية المنفردة والمزج بين العام والخاص وكذلك المزج بين التاريخ الفردي وتاريخ قضايا ومحطات الوطن المهمة، الفيلم كان برأي اغلب نقاد السينما أهم وأفضل ما أنتجته السينما العربية، حيث تناول السيرة الذاتية لشاهين ووصوله الى أمريكا طالباً في قسم السينما على خلفية احداث الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين في أربعينيات القرن الماضي، تلك الفترة الضاجة بالاحداث التي غيرت وجه وخارطة الوطن. اما الفيلم الثاني من أفلام محطة شاهين الذاتية التي اعتبرها مدخلا للعام العاصف، فهو فيلم "حدوتة مصرية" إنتاج عام 1982 الذي تناول الطفولة العاصفة -يوسف الطفل- كان تزاوجا غريبا وانصهارا بين عوالم غرائبية- تكاد تصل الى حدود الفنتازيا القصوى- وواقعية صارخة من خلال ثلاث شخصيات أنثوية مهمة في حياة البطل وهي أمه وأخته وزوجته وكذلك مثل صراعاً كبيراً بين الهروب الكبير من الذات – الطفل - والذات الاخرى – الرجل – والضربة الفنية الكبيرة ان شاهين أدى فيه دور البطولة، ولا اعتقد ان هناك مبدعاً تحدث عن سيرته الذاتية اكثر مما فعله – شاهين – او – جو – كما كان يحب ان يسمى وهو يسرد الموروث الكبير الذي عاشه إنساناً وفناناً وسياسياً ومغترباً. لقد أدركت وأنا اكتب هذه المقدمة انه كان قداساً فنتازيا كما هي أفلامه ونبرته الخاصة، وتخيلت او ربما خيل لي ان مخرج هذا القداس لم يكن غير يوسف شاهين ذاته، لقد تناول هذا القداس كل شيء أمام تابوت كان ينام فيه – يوسف شاهين – وسط فسحة هائلة من الزوايا والمرايا والانعكاسات الضوئية مكانا لا يختلف عن أي كنيسة في العالم سوى ان المكان له علاقة بشاهين، كان التابوت مغطى بعلم مصر والكثير من الورود الملونة التي غطت التابوت المرصوف على دكة عالية، وفوق التابوت كان أربعة رهبان ذوي وجوه غليظة يرتدون النظارات ويضعون أغطية الرأس السود ويرتدون الاردية الحمر وهم يحملون الكتب المقدسة والصولجانات الذهبية و يرددون التراتيل التي كان الحشد يرددها بعدهم، وشموعاً صفراً كثيرة توزعت وسط مشهد الجنازة وقد تخيلتك يا سيدي أيها المبدع وأنت وسط التابوت تراقب ذؤابات تلك الشمعة الكبيرة وهي تتساقط على صفيح وقماش التابوت وكنت أتصورك وأنت تتململ وتطلب من القساوسة - والاصدقاء القدامى الذين تحلقوا حول التابوت - ان يبعدوا انصهار الشمع في النار الصفراء عن جسدك.. لا لشيء سوى انها كانت تتقاطع مع القداسات التي كنت تصغي بتركيز عجيب الى نشيدها المتأخر جداً والتي اعتبرها اغلب من رأى ذلك عبر الصورة في التلفزيون قداساً أخيراً أقيم على جنازة رجل تحدثت عنه كثيرا في أفلامك. وصاح الجميع وسط الكنيسة – وداعاً... وداعاً يا جو.. كما قالها الراهب الذي تحدث عن رقيم سيرتك الفنية.. أنا موقن يا شاهين انك كنت وسط التابوت تحدق في هؤلاء وتسمع ما يقولونه وهم فوق منصة كانت اعلى قليلا من دكة تابوتك الذي دفن في الاسكندرية تلك المدينة التي عشت فيها وعاشت فيك طوال اكثر من ثمانين عاما وتغنيت بها مذ ولدت وحتى هذه اللحظة الوجدانية المهمة.. قلنا انه متأخر هذا القداس! لكنك صرخت فينا وبقسوة من خلف سماكة التابوت الملون بالراية الوطنية، انه مبكر جداً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram