عمار أبو رغيفالتقابل بين الأصالة والمعاصرة إشكالية تتجلى في حقول مختلفة من المعرفة والسلوك الإنساني، وهي ليست حكراً على حقل معرفي خاص، ولا تقتصر جغرافيتها على مشارق الشمس أو أوطان أتباع مذهب أو دين محدد، والاستقراء يؤكد ما نذهب اليه، ومن ثم فهي ليست إشكالية تخص الفقه الإسلامي أو قواعد استنباطه، بل يمكن ان نراها في سائر حقول المعرفة الإسلامية،
ونلمس تجلياتها في سلوك الآدميين من المنتسبين لهذه المعرفة. ولكي نتعرف على طبيعة هذه الإشكالية في الفقه الإسلامي ولكي نقف عند واقع التدافع بين الأصيل والمعاصر في هذا الفقه علينا أن نبدأ بتحديد موضوع المسألة وتنقيح محل النزاع، فالأقدمون من أهل العلم حرصوا على البدء بتحديد محل النزاع قبل أن يردوا أي نزاع يريدون خوضه وإبداء الرأي فيه، اما الفيلسوف الإنكليزي المحدث "جورج مور" فقد أكد أن كثيراً من النزاعات الفلسفية زائفة بحكم اختلاف الرؤى بشأن الاصطلاح وتعدد مفاهيم النزاع، إذن فالمتعين ان نبدأ من التعريف ونطرح الاستفهام الآتي: ما المعني بالأصالة وما المراد بالمعاصرة؟ بدءاً أجد من الضروري استبعاد المدخل المشوش لتعريف هذين المصطلحين، حيث اختار هذا المدخل الدكتور فؤاد زكريا في كتابه (خطاب الى العقل العربي) إذ دان أولاً الأصالة بتعريفها إنها العيش في الماضي واستلهم التاريخ لبناء حياة الحاضر على أساسه، ثم فسر المعاصرة بأنها الفعل القهري بمساكنة العصر الذي تعيش فيه وهي حتم مفروض، ومن ثم تضحى الإشكالية مزيفة ثم طرح تعريفاً آخر للأصالة بأنها تعني الفعل الاختياري بمتابعة أفضل إنجازات العصر ومن ثم لا منافاة بين الأصالة والمعاصرة! وإذا أردنا ان نقترب في تعريفنا من الصورة العامة التي نستعين بها مدخلاً للبحث نقول: الأصيل: هو الكائن الذي يرتد الى أصل، ويتفرع من جذور ضربت في الأعماق، الأصيل من الظواهر هو ما يستدعي تفسيره وتقويمه وتبريره الرجوع الى منابعه، والأصيل من الأفكار ما لديه مرجعية تسوغ وجوده يتكئ عليها ويتأسس في ضوئها. أما المعاصرة فهي تعني ان يكون السلوك منتمياً الى عصره وأن يكون الفكر منسجماً مع تحولات العصر وتطوراته لا أن ينتمي الى الماضي في لغته وأدواته ورؤيته، أن يكون الفكر معاصراً يعني أن يكون مستجيباً لمتطلبات العصر واستحقاقاته ومجيباً على أسئلته وملبياً لتطلعاته. من دون شك هناك تعارض وتضاد بين المعاصرة وبين التحجر والانكفاء على القديم، بين الحداثة وبين الماضوية وتقديس القديم لقدمه، ولكن هل هناك تعارض بين أصالة البحث الفقهي وبين معاصرته؟ هل هناك تضاد بين الفكر الإسلامي الأصيل وبين المعاصرة؟ هل انتماء الفكر الى الإسلام وتأصيله على الأسس والمبادئ الإسلامية يتعارض مع معاصرته؟ أعتقد إن الإجابة ستكون نعم إذا ذهبنا في وصف الفكر الإسلامي مذهب من يقرر إن هذا الفقه في أحكامه عامة قواعد أزلية ثابتة لا يصح التجديد في إرجائها ولا يمكن مسها باجتهاد، إنما تؤخذ بالتقليد قواعد مطلقة لا يعتريها الاستثناء والتقييد، وهي قوالب ثابتة تطبق كما هي في مختلف الظروف والأحوال. واعتقد أيضاً إن الإجابة ستكون نعم إذا ذهبنا في فهم المعاصرة بأن معطيات العصر قدر لا محيص من الإقرار بها والسير وفق دلالاتها والنظر الى الإسلام وفقهه وكأنه ميتة تلغي المعاصرة كل قيمه التي تتعارض مع زحفها الآتي من وراء الحدود أو من مضمون النظام الصناعي وظلم النظم التي تحكم آلية إدارة هذا الكوكب، ومن تداعيات السياق الاقتصادي وآثاره على البنى الاجتماعية المستحدثة. ولإيضاح الفكرة أضرب لكم مثلاً: ذهب بعضهم الى الدعوة الى إلغاء (دية العاقلة) من أحكام القضاء الإسلامي، لأن المدنية المعاصرة فرضت انهيار النظام الأسري وقطعت الأرحام ومن ثم لا مسوغ ليتحمل الأقربون مسؤولية خطأ من لا يرتبطون معه برباط! ولابد من مجاراة للعصر من إلغاء الدية على العاقلة. حينما ارتكبت الحداثة كبيرة قطع صلة الأرحام فعلينا ان نخضع لساقها ونلغي من أحكام الفقه الإسلامي ما يترتب عليها، وقد أغفل من تبنى إلغاء دية العاقلة إن عليه أن يلغي نظام الإرث، إذ لا معنى أن يستفيد مالياً من لا يتحمل المسؤولية المالية بحكم صلة الدم التي قطعت المدنية المعاصرة أواصرها الاجتماعية، وبذلك يكون الفقه الإسلامي والإسلام حتى بقيمه التي أخذت فلول الحداثة الاعتراف بضرورتها والإقرار بأن نظام الأسرة ضرورة تجب العودة إليه- سيكون هذا الفقه ميتة لا صوت لها أمام كل مساوئ العصر وكبائره. ان هذا اللون من التكيف مع العصر يصطدم مع الأصول الإسلامية من دون ريب، إذ ينظر الى أحكام هذا الدين نظرة مبتسرة تجزئ وحدتها، بل تحكم عليها بالموت ثم تأتي لتمارس علاجها. يحق للباحث ان يقرر لغوية (دية العاقلة) انطلاقاً من الإيمان بقيم المدنية المعاصرة لكنه لا يحق له ان يقرر إلغاء هذا الحكم من الفقه الإسلامي استناداً الى مآل المدنية المعاصرة وقيمها التي تتعارض بالصميم مع رسالة الأديان عامة، بل مع النصوص القرآنية المؤكدة، بل إلغاء مثل هذه الأحكام يعني إلغاء خلود رسالة الإسلام بقيمه الأساسية، وإعلان موت دور الدين إزاء الانحرافات القيمية الكبرى التي تحاول تطورات العصور ان تفرضها على حياة الناس. في هذا الضوء يتضح إن مفهوم الأصالة والمعاصرة شأنه شأن أغلب المفاهيم ن
الفقه الإسـلامي بين الأصـالة والمعـاصـرة
نشر في: 13 نوفمبر, 2009: 06:10 م