إبراهيم الغالبي قد يكون الحديث عن الأقليات في العالم العربي هو الحديث الأزمة و ليس عنها و الحديث عن اليهود له حساسيته خاصة في العراق لأنه يجر للحديث عن الماضي و بالتالي يبدو للبعض أنه محاولة طرح سؤال لإثارة أجوبة و الجواب موقف و الموقف متعدد و التعدد قد يعني اختلاق أزمة جديدة موضوعها التاريخ..
و على أية حال فما قيمة إثارة مواضيع ميتة أو هكذا تبدو إلا إذا كانت هناك أغراض معينة خلف الستار؟ في حين أن الحقيقة الصارخة تفيد بأن تاريخ الشعوب لا يتجزأ بهذه السهولة و لا توجد قضايا ميتة لأن كل حدث تاريخي أسهم في تشكيل حالة ما تنتمي لبنية اجتماعية و ثقافية و سياسية وقد تكون جزءا فاعلا في صيرورتها. مفارقة التاريخ بالنسبة لليهود العراقيين أنهم جاءوا قسرا و رُحِّلوا قسرا و الفاصل بين القسرين معاناة طويلة و آلام مبرحة حين وجدوا أنفسهم وقد انتزعت منهم عراقيّتهم و تم عزلهم في تواطؤ مثير و غريب قلما حصل تجاه أقلية دينية في العراق على وجه التحديد حد أن فرض الحزب الشيوعي العراقي في فترة ما على كوادره من اليهود تغيير ديانتهم إلى الإسلام كي يتسنى قبولهم في حظيرة الفكر الماركسي!! نعم يذكر لنا التاريخ حملة القاهر بأمر الله في محاولته اجتثاث الصابئة من جنوب العراق بتحريض من الفقيه أبو سعيد الاصطخري. و لحسن حظ الصابئة أن المال قد أنقذهم آنذاك بعد أن جمعوا فدية كبيرة دفعوها ثمنا للبقاء أحياء و إذا كانت أموال الصابئة قد أنقذتهم من حملة عسكرية كان مخططا لها أن تنتهي باقتلاعهم تماما فإن المال اليهودي كان فعل العكس و شكل واحدا من أسباب تهجيرهم. اليهود على أية حال لن يعودوا إلى العراق و لكن المسيحيين و الصابئة قد يهجروه ليكتمل الحديث طبقا عن طبق.. وهنا تبدو أهمية العودة إلى (أطباق) التاريخ لكي لا نرد نفس المورد و نأكل ثانية من ذات الماعون.. الأدب الروائي العراقي بعد 2003 لم يطرق موضوعة التعايش الديني إلا بحدود ما ينتمي إلى (أخلاقيات المواطنة) و فرضيات (العراقية) كهوية تتعالى على خانات الانتماء العرقي و القومي و المذهبي و لم تلمس حدودا أبعد من حدود ما قبل 2003 باعتبارها الحالة المطلوبة بل و تبدو أنها الحالة المثالية! المنجز الجديد للروائي نجم والي المقيم في ألمانيا منذ بداية الثمانينيات (ملائكة الجنوب – كتب عماريا) يجترح مقاربة أكثر عمقا و يحاول استرجاع حدث تهجير اليهود في القرن الماضي بمسحة تعاطف واضحة مع (ضحايا) الحدث، هذا التعاطف الذي ربما اعتبره البعض دليل خيانة و علامة رضا على الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين! ربما اعُتبِر مقدمة جهد موسادي لبداية تطبيع مع إسرائيل..! من يدري!! مع أن الأمرين منفصلان و لا علاقة لأحدهما بالآخر و مع أن ملائكة الجنوب هي دعوة للتطبيع مع الذات و مراجعة التاريخ لمنع تكرار ما لا يجب تكراره.. فهي تعرض واقع المجتمع العراقي في مرحلة شهدت المد الجارف لبداية غطرسة و بشاعة الدكتاتورية، وقد ركزت الرواية على العلاقات الإنسانية النبيلة كالحب و الصداقة و الزمالة و الجيرة في إطار عرضها التاريخي لحدث التهجير. إن ادعاء العلاقات و المعاني الإنسانية ضمن إطار الإيديولوجي – الديني – السياسي.. يشار له بقوة من خلال تطبيقات الدين في نتاجه الاصطفائي و الإيديولوجية في شموليتها و السياسي في سلطويته. في حين أن من المفترض أن يتخطى المعنى الإنساني تلك الحواجز الفاصلة بين الكيانات الدينية و الثقافية و يقفز على تحديدات وخطوط الاصطفاء والاصطناع والتقوقع. (الحب في الإنسانية) هو القيمة الأكثر سموا و عفة بل وتديّنا كذلك.. لو تأملنا مدخل الرواية بعناية لوجدنا أن القصة التي نحن بصدد حكايتها إنما تستهدف الجيل الجديد، الجيل الذي يهرب من واقعه التعيس ويريد نسيانه (لا أدري إن كان الشباب الثلاثة الذين وجدهم البطل يقومون بتحضير المخدرات يحمل عددهم دلالة ما بقدر ما تحمل أعمارهم دلالة أخرى؟) هؤلاء الذين يريدون نسيان حاضرهم كيف يتم إقناعهم بالاستماع لقصة الماضي؟ لقد استأنسوا بوجود المغترب العائد إلى المقبرة حيث غربة الإنسان هنا مضاعفة فالقاطنون هناك غادروا الدنيا مرتين، إنها دلالة على الرغبة في السؤال.. فكل حاضر مشتبك مأزوم يحيل إلى تساؤلات عن الماضي لهذا لا غرو أن يجدوا في حضور هذا العائد من الماضي أنسا (.. كأنني بدوت بالنسبة لهم جزءا غائبا من المقبرة قد عاد).. مكان الاغتراب هذا يختاره المغترب نفسه، لماذا تكون بوابة العودة إلى الوطن تلك المقبرة؟ المتبادر من دلالة على الموت ممكن و لكن قد نضيف إليها رغبته في اختيار أهدأ مكان بين أرجاء الفوضى، خاصة و انه راح يشاركهم تحضير الخلطات و منها خلطة (الصفنات) التي وجد من المناسب الوقوف عندها (قبل أن أتبعها بخلطة الحصان، إنه ليس بوقت الصهيل الآن، علي أن أنهض و أغادر..).. لقد غادر المقبرة ليدخل مباشرة في تخطيطه الأول إلى وعي الطفولة عاكسا رغبة الحياة على لسان ملائكة التي كانت تعلم دون الجميع أنه سيبقى حيا بعد أن شرب ربع لتر من النفط.... يلح الكاتب في تخطيطات الرواية الأولى التي تمثل بنية السرد المبتكرة على حقيقة أنه مسكون بسؤال محير فرضته بيئة التنوع و التعدد في مدينة العمارة، و بما أن ا
مـلائـكـة الـجـنـوب.. و الـتـطبـيـع مـع الـذات
نشر في: 15 نوفمبر, 2009: 05:09 م