اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > القطار نـصـّـاً

القطار نـصـّـاً

نشر في: 17 نوفمبر, 2009: 05:05 م

محمود عبد الوهاب للمكان مذاق، مذاقٌ في الرؤيا. حينما يتحوّل المكان من بَصَرِك إلى بصيرتك، ويفقد أبعاده الماديّة، تتجلّى روحه، ويتأسّس نصّاً، وتبدأ قراءته. قصتي (القطار الصاعد إلى بغداد) 1954، قراءة لمكان متنقّل وآخر ثابت: القطار ومحطّته.
في عتمة ذلك المساء من عام 1950، كان رصيف محطة قطار المعقل يكتظّ بالمودّعين. بقعة كثيفة رجراجة من النساء بعباءاتهن السود، تستطيل مرة وتضيق. كانت أمي، بوجهها الباهت الحزين، تودعني من بين مجموعة الطلاب الذين قُبلوا في كليات بغداد. العتمة تتكاثف، وبقعة المودّعين تتجمع مرة وتنفرط، والقطار بدأ يطلق صفيره الحادّ ممزقاً جوّ المحبة وقلق الفراق. القطار، ذلك المكان المتنقل، كان موضوعة مهيمنة في عدد من قصص الخمسينيات، فلم يعد القطار يمتلك خصوصيته المكانية، بعد أن غزته عيون القصّاصين، وأصبح مكانهم الذاتي يضعون عليه أحزانهم وأحزان الآخرين، وسعادتهم وسعادة الآخرين. أكثر ما تناولت القصص والروايات، من قبل، المكان الثابت: البيت، السلالم، الغرفة.... وأقل من ذلك، ما تناولته المكان المتنقّل: القطار، الطائرة، الباخرة. كتب (هرمان ملفل) روايتـه " موبي دك " عن سرد أحداث تقع في سفينة عبر البحار، وكتب (همنغواي) روايته " الشيخ والبحر " عن صياد عجوز في صراعه مع أسماك القرش، مستغرقاً أحداث الرواية في قارب وسط البحر، وجبرا إبراهيم جبرا كتب روايته " السفينة " في الأجواء نفسها. وفي السينما كانت " تيتانك " السفينة المهيمنة الحاضنة لوقائع السرد السينمائي، أعدّ سيناريو الفلم (جاستن هايثي) من رواية "العبث" (لموركان روبرتس) 1898. مجموعة مؤثّرات حضارية وثقافية واجتماعية، كانت حافزاً لقصّاصي الخمسينيات الى تأطير سرودهم برحلة القطار، ربّما لأن القطار بيئة جامعة لمختلف الفئات والطبقات، في دلالتها وإحالتها إلى الواقع الاجتماعي الخمسيني ما كان يلائم القصّ، آنذاك، في موضوعة "الواقعية ". كانت قصص القطار الخمسيني ظاهرة استئنائية في موضوعتها وتراتبها وظهورها عند كتّاب ذلك الجيل، فقد كتب فؤاد التكرلي قصته القصيرة (العيون الخضر) 1950، ومهـدي الصقر (بكاء الأطفال) 1950، وعبدالملك نوري (ريح الجنوب) 1952، ومحـمد روزنامجي (قطار الجنوب) 1954، وكتبتُ (القطار الصاعد إلى بغداد) 1954، وفي العقد نفسه كتب عبدالصمد خانقاه (طنين)، وعلى الرغم من مشتركات موضوعة القطار وواقعية القصّ عند أولئك الكتّاب، فإن هناك اختلافاً في طرائق سردهم، واستعمالهم ضمائر متباينة للساردين في أقاصيصهم وتنوّع أساليبهم. أتذكر أن الصديق د. سلمان كاصد سألني، وهو يعدّ رسالته للدكتوراه بعنوان " البنى الموضوعاتية والفنية في قصص مهدي عيسى الصقر" عن سبب هيمنة موضوعة (القطار) عند قصّاصي الخمسينيات، فأجبته: إن الروايات الروسية قد ألقت بتأثيرها عليّ شخصياً، إنّ محطة القطار في رواية " أنّا كارنينا " لتولستوي لا تزال تصخب في رأسي، وقد خصّص د. كاصد مبحثاً فرعياً في رسالته، درس فيه بنية الموضوعة وطرائق السرد وعناصر أُخر في القصص الأربع التالية: العيون الخضر. بكاء الأطفال. ريح الجنوب. القطار الصاعد إلى بغداد، مؤكداّ أن خاصية السرد فيها تُحيل إلى واقع اجتماعي، وهو استنتاج سليم، فإن الكتـابة المكانية لتلـك القصص كانـت انحيـازاً إلى " الواقعية " بأنماط سردية مختلفة. إنّ أمكنة المدينة ومتغيراتها مثل المقاهي والحدائق العامة ودور اللهو ووسائل المواصلات لابدّ من أن تثير اهتمام القاص وتحفّزه على الكتابة عنها في أقاصيصه، غير أن القطار كان أكثرها إلحاحاً على مخيّلة القاص الخمسيني لكون القطار موقعاً موضوعياً مثقلاً بالهمّ الاجتماعي والإنساني، وهو موقع بؤريّ أيضاً، تتجمع فيه مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، تتبادل في أحاديثها تفاصيل بؤسها وأحزانها في سفر الليل الطويل، إذ يرصد فيه القاص الأحداث والشخصيات والأصوات الضّاجة في العربة. إنّ الوعي بالواقع وحده لا ينتج فناً ما لم يقترن باشتراطات الكتابة الفنية، وعربة القطار، وليل السفر، ووحشة العتمة، لا تُبقي لعربة القطار فيزيقيتها الموضوعية، بل تتجاوزها إلى ميتافيزياء المكان وروحه وشعريته التي تحققّ أدبية القصّ. لا أتذّكر الآن مَنْ هو ذلك القاص الذي قال: إن نصف ما كتبتُ مَدين به إلى ركّاب الدرجة الثالثة من القطار.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تربوي يشيد بامتحان "البكالوريا" ويؤكد: الخطا بطرق وضع الأسئلة

إطلاق سراح "داعشيين" من قبل قسد يوتر الأجواء الأمنية على الحدود العراقية

(المدى) تنشر مخرجات جلسة مجلس الوزراء

الحسم: أغلب الكتل السنية طالبت بتعديل فقرات قانون العفو العام

أسعار صرف الدولار في العراق تلامس الـ150 ألفاً

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram