د. شفيق مهدي متى تعرفت على (مؤيد نعمة)؟ اظن ان ذلك قد كان في اواخر سنة سبعين او أوائل السنة التي تلتها من القرن الماضي التقيته في مبنى وكالة الانباء العراقية المطل على دجلة في شارع ابي نواس مساء كان منهمكا في رسم غلاف (عبقرينو) الشخصية التي ابتكرها الكاتب المبدع (كاظم صالح) كان (مؤيد) جالساً يرسم يحبر الغلاف الذي انتهى من تخطيطه،
رسم (عبقرينو) المخترع العبقري الذي اخترع جهازا معقدا جداً لتسخين الماء ابديت اعجابي الشديد بالفكرة وبالرسم فاكتفى بهز رأسه مبتسما ابتسامة خفيفة. الفنان المثقف مؤيد نعمة فنان مبدع موهوب بدأ مع الفن الاصعب، الرسم للاطفال لم يكن يرسم ما يوكل اليه فقط بل كان يقرأ النص اولاً وقد يناقش الكاتب فيه لربما اقترح شيئاً من الحذف او الاضافة او التغيير لا اعتباطاً بل وفق نظرة منهجية علمية دقيقة تدل على وعيه الثقافي العالي ولا يخفي اعجابه بنص قرأه او رسمه. ذات مرة تحدثت معه عن شاعرية المبدع الكبير (خيون دواي الفهد) رحمه الله واستشهد له بقصيدته (صديقتان) الحلوة الرائعة فقال لي صحيح انها قصيدة جميلة ولكن (نوارس) اجمل منها. وراح يردد هذه القصيدة التي حفظها: نوارس نوارس تمضي الى المدارس لا مطر يمنعها ولا شتاء قارس عام فعام ينقضي ويتركون المدرسة فارسة وفارس ظل مؤيد نعمة يرسم للاطفال مخلصاً لهذا الفن النبيل الصعب الذي يأخذ من الفنان وقتاً كبيراً وبنحو خاص عند رسم القصة المصورة المقطعة وكل همه ان يرقى بهذا الفن الخلاق. ذات مرة رأيت علبة (مصاصات) مزينة برسوم تشبـه رسومه الى حد كبير عندما اقتربـت منها رايت انهـا رسومـه فقلت له : البارحة رأيت رسوما على علبة مصاصات تشبه رسومك. قال ولماذا لا تكون رسومي انا رسمتها حباً بالاطفال؟ لم تزين رسومه كتب ومجلات الاطفال العراقية فقـط بـل رسـم فـي العديـد مـن المجلات العربية نذكر منها (حاتم) (طه ردنية) مثلاً . ومن غرائب المصادفات وعجائب الاتفاقات ان اخـر كتابين رسمهـما (مؤيد) للاطفال هما اخـر كتابين كتبهما المبدع الكبير الدكتـور جعفر صادق محمد وهما روايتان:(دليلة وسمنة) و(حكاية هيمان مع حبيبة فرط الرمان) وقد نشرتها (دار ثقافـة الاطـفال) مؤخـراً. فنان المبدأ (مؤيد نعمة) كما هو معروف يساري المبدأ لا يرسم الا ما يقتنع ويؤمن به احس باحساسه المرهف الرقيق ما يعانيه شعب العراق من جور رئيس النظام السابق فكان يبذل جهده في رسم معاناة الناس بهذه الوسيلة او بتلك مرسخاً ريشته الساحرة وفكره النير لتجسيد هذه المعاناة المريرة وكان ينشر رسومه في جريدة (طريق الشعب) بعد ان اجيزت له رسم ذات مرة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي صورة هزلية مليئة بالمرارة لامرآة عراقية ترتدي العباءة و (الشيلة) وبيدها (العلاكة) وهي تندب حظها وقد كتب تحت الصورة هذا التعليق: كيلو اللحم بدينارين وماكو ليش تبجين دكومي اكلي دبس عيونج مدمعات دمعج محتبس وفي الوقت ذاته لم ينس معاناة الشعب الفلسطيني فعندما حدثت حرب تشرين الاول (اكتوبر) في سنة 1973م تحدثت معه عن الموقف المتخاذل لبعض الحكام العرب الذين وقفوا موقف المتفرج من هذه الحرب فأوحيت له بفكرة رسم لوحة تمثل احد هؤلاء الحكام وبيده زهرة يقطف وريقاتها وريقة وريقة وهو يردد مع نفسه (أحارب ..ما أحارب). وقد رسم زهرة كبيرة جداً تدل على ان الحرب ستنتهي والحاكم لن ينتهي من نتف وريقاتها. وظل (مؤيد نعمة) شاهراً ريشته بوجه كل الخونة الفاسدين من الحكام الذين خانوا اوطانهم وقوميتهم وتنكروا لابسط المبادئ وبنحو خاص خيانتهم للشعب العراقي الذي عانى الحصار الدولي القاتل الذي سببه له حاكمه الطاغية. كان (مؤيد) يرى وهو محق ان العديد من حكام الخليج يقفون وراء هذا الحصار بعد ان ارضعهم الاستعمار مبادئه ومفاهيمه اراني لوحة تمثل عدداً من حكام الخليج اضطجع اولئك الحكام على الارض بكروشهم الممتلئة واعجازهم المنتفخة وهم يرضعون من حليب خنزير اجنبي كان (مؤيد) ينشر رسومه اليومية هذه في جريدة (العرب اليوم) الاردنية نظرت الى الصورة ملياً وقلت له: فقال لي وهو ينظر الى اللوحة بحنان وكانه ينظر الى وليدله:لااظن انها ستنشر المهم انني قد عبرت عما في داخلي: ونشر الاستاذ (صالح القلاب) رئيس تحرير الجريدة لوحة مؤيد وأراني العدد الذي نشرت فيه الصورة وهو يشعر بالزهو والخيلاء فقد انتصر للشعب العراقي من الحكام الخونة. نبوءة (مؤيد )التي تحققت ! ظلت ريشة (مؤيد نعمة) نقية لم يلوثها برسم اي شيء يخدم اعلام النظام المقبور على الرغم من الضغط الكبير الذي تعرض له فوجئت ذات يوم برسمه لغلاف مجلة الف باء رسم جندياً عراقياً ينهال بالضرب العنيف بنعاله على رأس جندي ايراني بعد ان قبض على رأسه باحكام ولما سألته عن سبب رسمه لهذا الغلاف نظر الي نظرة عتاب وقال: الا تعرف إلامَ أرمز بهذا الجندي الايراني هذا هو صدام الذي جر علينا ويلات الحرب. وتحققت نبوءة مؤيد بعد ان اوقع الصنم من ساحة الفردوس وانهال على رأسه ذلك العراقي بنعاله.
نبــوءة مؤيــد نعمـــة
نشر في: 18 نوفمبر, 2009: 03:44 م