حسين الهنداوي ولقد كانت فعلا نكبة صامتة تلك التي حلت بفن الرسم العراقي برحيل مؤيد نعمة، نكبة تضاعفت بفعل الطابع المباغت وأكاد اقول الغادر الذي تلبسه ذلك الرحيل في لحظة كان فيها الفنان الكبير النفس والموهبة في ذروة تألقه وتحضيراته للعطاء الحياتي والتشكيلي الاهم في كل عمره ربما،
ومن بينها معرض كبير مشترك مع صديقه الفنان عبدالرحيم ياسر كان من المتفق ان يتم افتتاحه في لندن نهاية العام نفسه ثم ينقل الى عدد من عواصم الفن الاخرى للتعريف بهذا الوجه الحيوي من الفن التشكيلي العراقي المعاصر. كما ان غياب مؤيد نعمة خسارة عميقة أيضا للحركة الابداعية العراقية والعربية الناهضة من رماد القمع والسطحية والفجاجة كلها باتجاه الحرية والسمو والمستقبل. فمؤيد نعمة في هذا الميدان، من خلال اعمال جريئة وطليعية كثيرة، بدا رائدا مبادرا وأميرا كريما بلا ادنى جدال. وهذا ما استطيع الشهادة عليه عن قرب ومعرفة مباشرة من خلال صداقة متأخرة وكثيفة في آن من خلال مؤسسة "عراق للابداع" التي كنا قد أسسناها في بغداد آنئذ ولعب هو في انشائها وارسائها دورا اساسيا كما حرص على تصميم شعارها مانحا فيه كلمة (عراق) اقصى ما يمكن من الخصب والمجد وبإصرار لم يكن لأي من الاعضاء العشرة او اكثر المؤسسين الا الاستجابة لفكرته. وأقول كثيفة لأنني اعرف واحترم فن مؤيد نعمة منذ نحو ربع قرن، وبشكل خاص منذ معرض عالمي لفن الكاريكاتير اقيم في النصف الثاني من الثمانينيات في "معهد العالم العربي" بباريس وشارك فيه بلوحتين اثارتا جدلا كبيرا حول موهبة رائعة ولامعة عرفت كيف تتسامى على الرطانة البعثية دون ان تفقد مسامة واحدة من روحها العراقية الجليلة: "المهم في فن الكاريكاتير ليس قوة الصنعة بل قوة الأفكار" كما قال لنا مرارا، وهذا ما ظللت أواصل اكتشافه من خلال عشرين سنة من المتابعة المبعثرة لكن العميقة دائما لرسوم هذا الفنان الكبير الباحث دائما عما وراء الابتسامة والذي منح السخرية وظيفة سامية ورصينة وان بدت مثقلة بالحزن والاسئلة الاليمة غالبا. لكنها صورة بدت مرشحة اخيرا للتغيير جديا لأول مرة منذ عقود: "الآن بدأنا نحقق احلامنا" هذا ما صرنا نردده بثقة مع مؤيد بعد سقوط النظام السابق كالخشخاشة اليابسة، ورغم ان نزعة العداء للثقافة ولحرية الابداع لاحت سلفا كأحدى ابرز ملامح الطغم الحاكمة الجديدة التي أخذت تدعي وتمارس شرعية شكلية بإسم ملل ونحل وشراذم مستخدمة أدوات قمع فكري وجسدي كنا نعتقد بإنها حكر على الفاشيات التقليدية. هل بعد هذا نستطيع تلمس حجم الضربة القاسية التي تلقاها كل واحد منا بفقدان ذلك الانسان الثري بالامل بالعراق وبالتواضع الجم ايضا؟ بالنسبة لي لم اجد امامي سوى الهرب من تصديق خبر رحيل هذا الفنان الشاب (عن عمر يناهز بالكاد الرابعة والخمسين عاما)، المولود في بغداد عام 1951 والمتوفى فيها في 26/11/2005 والمعروف في كل بلاده بجرأته الفنية في تناول محرمات فن الكاريكاتير عبر رسوم لم تنقطع ابان العقود الثلاثة الاخيرة والذي كان قد نشر اول رسم له في عمر السادسة عشرة ليشارك بعدها بعامين في تأسيس اول مجلة للاطفال في العراق، وليشرع بعد ذلك بعامين في العمل رساما كاريكاتيريا في الصحافة اليومية، قبل ان يتخرج في "معهد الفنون الجميلة" ببغداد عام 1971، ثم في"اكاديمية الفنون الجميلة" حاصلا على شهادة البكالوريوس من قسم السيراميك. وهكذا فمنذ بدايته كرسام قبل اربعة عقود، قرر مؤيد ان تكون رسومه محددة وهادفة وان لا يرسم الا ما يريده هو متطلعا في ذات الوقت وعن وعي خفي الى الاقتراب من عالمية انسانية تنبذ السذاجة والارتجالية في الكاريكاتير لصالح الفكرة والحلم والامل وكل ما هو نير في الذات الانسانية العالمية. ومؤكدا ايضا ان (ما افكر به هو ان اكون قريبا من احداث بلدي وهذا هو حال جميع رسامي الكاريكاتير في العالم أجمع محاولا ترجمة ما اشاهده واشعر به الي رسوم انشرها). لقد اخطأ اولئك الذين اعتقدوا ان مؤيد نعمة صور الكوميديا السوداء ليضحك منها الناس في بلاده. بينما كان هو يصور آلامهم هم، وتحديدا لأنها آلامهم، بينما كان الفنان الراحل "يغلي من الداخل" كما قال عنه ناقد لامع مرة. فآلامهم تلك ذاتها هي ما كان يحملها في جسده على الاقل منذ عام 1979 عندما اعتقل وتعرض الى التعذيب وظل يعاني ضعف السمع نتيجة الضرب المبرح في السجون البعثية. اللقطة المباشرة هي النافذة المبدئية لرسام الكاريكاتير، لكن اللقطة المباشرة هي عملية معقدة الابعاد عندما يتعلق الامر بفنان عميق الألم كمؤيد نعمة. وهو بهذا اقرب الى مغامرة ناجي العلي: فنان تشكيلي كبير وملتزم ويساري دفعة واحدة، لذا فهو يتخلى تلقائيا عن اي قضية عابرة لصالح قضية واحدة تغدو المحور في العمل الفني، لأنه جعلها محور قضية حياته الواضحة والدقيقة بذاتها. وكما هي فلسطين لدى ناجي العلي فانها العراق لدى مؤيد نعمة: "ما افكر به هو ان اكون قريبا من احداث بلدي لأن معاناة العراق كبيرة وقد أخذت حصة كبيرة من تفكيري" قال مرة، مضيفا "ان اعمالي بالذات ابتعدت عن حدود اللوحات واتجهت نحو السخرية ال
في ذكرى مؤيد نعمة
نشر في: 18 نوفمبر, 2009: 03:47 م