د. فائق مصطفى في البداية نحاول ان نحدد معنى المثالية، ان المثالية لاتعني النزوع في التفكير الى المثل الاعلى وانما تعني كل اتجاه في التفكير يتسم بنزعة تأملية ذهنية غير موضوعية تقوم على تأمل العالم من فوق البرج العاجي دون النزول الى ارض الواقع،
وتنطلق هذه النزعة من تصورات فكرية مجردة تفرض فرضا قسريا على الواقع، فالرؤية المثالية هي تلك الرؤية التي تنظر الى الواقع الانساني نظرة جامدة وجزئية ناقصة، اذ انها تلتفت الىجانب واحد من الظاهرة دون جوانبها الاخرى وهذه النظرة ليست الا نظرة تشويهية لانها تطمس القونين الموضوعية للواقع، اعني انها تطمس مافي الواقع من حياة وصراع وتناقض وحركة كما انها تعزل الاشياء والظواهر عن شروط وجودها اظروفها الموضوعية فتحيلها الى تجريدات خالصة، والمثالية تعني هنا ايضا اللاعقلانية في تفسير الواقع والهروب منه والجري وراء الشطحات الصوفية والغيبية ولعل هذه المعاني للمثالية ان تكون قريبة الصلة من المعنى الذي تحدده الفلسفة الاكاديمية للمثالية وهو الميل الى تفيسير الوجود من خلال الذات والفكر وهو المعنى الذي تعكسه مقولة شوبنهاور المشهورة ان العالم هو فكرتي عنه. وواضح ان الادب الذي يصدر عن النزعة المثالية ليس الا ادبا رجعيا ومعزولا عن الحياة وذلك لان مثل هذه النزعة تحول بين الاديب وبين رؤية العالم في صورته الموضوعية. ونقيض الرؤية المثالية الرؤية الواقعية التي تنظر الى الواقع نظرة موضوعية حية ومتكاملة فلا تفعل العوامل الموضوعية والاجتماعية التي تتحكم في حركة الواقع وغالبا ما تسفر هذه الرؤية عن ادب يتسم بطابع تقدمي ويقف الى جانب القوى الاجتماعية الناهضة ويعبر عن اشواق الانسان وتطلعاته نحو واقع افضل. لقد تأثر توفيق الحكيم اثناء اقامته في فرنسا بالفلسفات المثالية والنزعات الصوفية فشغف بالادبين الرمزي والصوفي وقد جعله هذا الشعف يبعد عن الواقع وتتعالى عليه ويعيش بدلا من ذلك في عوالم وهمية خيالية حتى صارت له مواقف وآراء وتصورات مثالية وغريبة وشاذة اخذ ينظر من خلالها الى الواقع ويحكم عليه بموجبها ومما دفعه الى المضي في السير في هذا الدرب هو طبيعته الانعزالية وانتماؤه الطبقي. ان هذا الموقف المثالي جعل الحكيم يفصل بين قضية الفن والحياة فصلا كبيرا بحيث صار يبعد عن الواقع الحي ليعيش في تصورات غريبة عن الواقع دون ان يعيش الواقع نفسه، حتى غدا الفنان في نظره اما ان يكون واما ان يحيا فبقدر ما يبتعد الفنان عن الحياة وخضمها ويتعالى على صغائرها يسمو فنيا ويرتقي الشاهقات من قمم الاولمب، وبقدر ما تغريه بالاقتراب منها وباللعب من منهلها وبالخوض في عبابها، ينأى عن الفن ويهوى عن ساحق اياته، ومن هنا نراه يقول في احد كتبه ان اكثر الكتاب يعيشون حياتهم اولا ثم يكتبونها بعد ذلك اما انا فاكتب حياتي اولا ثم اعيشها بعد ذلك. واصبح الفنان في نظر الحكيم هو الانسان الفاقد لارادته الانسانية وآدميا لايشبه الادميين في شيء والادمي الذي لايشبه الادميين في شيء هو ذاك الذي تحرر من كل ارتباط الارتباط بالاسرة او بالمرأة او بالنزوة او بالزمان والمكان، هو الانسان اللامنتمي حتى الى قوانين الحياة في جسده، الفنان هو الانسان الوحيد الاوحد، المجرد، المتجرد، الاعلى والارقى المطل من شاهق على وحل البشر اي على آمالهم وآلامهم ونضالاتهم وصراعاتهم التافهة الزائلة. ولعل النتيجة الطبيعية التي اسفر عنها هذا الموقف شغف الحكيم بكل ماهو غريب وشاذ ونبذ ماهو مألوف عند الناس وبالرغم من احساس الحكيم بان هذا ليس مما يحمد في ادبه الا انه مع ذلك لم يستطع التخلي عن هذا الموقف، ان اسقاطي الحياة والعوطف كما هي، وكما يراها ويحسها دهماء الناس، وركوني الى الطريقة الرياضية في تصريف افكاري وتأملاتي لمصيبة كبرى. وكان اعجاب الحكيم وانبهاره بالحضارة والثقافة الاوربية، واحساسه بتفوقها واعتماده عليها في كل شيء عاملا آخر من العوامل التي حملته على اتخاذ مثل هذا الموقف المثالي، ولعل هذا ماجعله يستمد الحلول الجاهزة من هذه الثقافة ويحاول فرضها على واقعه القائم ولما لم يتقبل هذا الواقع مثل هذه الحلول الجاهزة فقد راح الحكيم يرى واقعه هذا سجنا ومافيه قيودا في الوقت الذي رأى ان الثقافة الاوربية تعني الحرية والانطلاق والسمو بالنسبة اليه ومن هنا فهو لم يسع الى مواجهة مجتمعه ومعايشته والتخلص من ازماته باكتشاف جذورها الاجتماعية ومحاولة اقتلاعها لتحقيق الخلاص لنفسه ولمجتمعه في الوقت نفسه لكنه سعى الى خلاص نفسه وحدها بالتأمل الفكري المثالي في نفسه وفي واقعه داخل برجه العاجي. ومن اجل ذلك راح الحكيم يتخذ من الاسطورة ملجأ، يلوذ به كلما ضاق بواقعه الذي لايتقبل افكاره المثالية التي تتعارض مع الواقع كل المعارضة فهو يعمد في مسرحه الى الغاء الواقع الغاء كاملا والاستعاضة عنه بشكل اسطورة عربية او اجنبية او تقديم عالم وهمي يتيح له فرصة اكبر للتعبير عن افكاره دون ان تشغله تداعيات الواقع وجزئياته الصغيرة. ولي من شك في ان الاديب الذي يتعالى على الواقع ولايساهم في عملية الصراع الاجتماعي في النهاية غير ذاته، ولهذا يظل مشغولا بذاته وحينما يضيق بهذه الحال المؤلمة التي زج بن
مسرح توفيق الحكيم المثالي
نشر في: 21 نوفمبر, 2009: 02:25 م