ان مشكلتي مع بعض رجال الدين المتزمتين تكمن في ان الاسلام في نظري هو دين الحركة والتطور لانه صالح لكل زمان ومكان، فهو ذو صوت جهير في الدعوة الى متابعة العلم في تجدده (وهل ينفع القرآن الا بالعلم9 حديث لرسول الله صلوات الله عليه اورده الامام الغزالي في كتاب (العلم من احياء علوم الدين) في حين ان فئة من برجال الدين فهمت حكمة الله من ان الاسلام هو صالح لكل زمان ومكان
على اساس الوقوف بهذا القبس العلوي عند مرحلته الاولى، مرحلة عصر النبوة فحسب. ولان الاسلام هو (دين البشر كافة صالح للتحرك في كل زمان ومكان كتحرك النجوم في السماء وتحرك الانسانية نفسها من درجة الجهل الى درجة العلم) كما كتبت في الحديث الثاني من الاحاديث الاربعة،، فمعنى ذلك ان الاسلام صالح لمواكبة المتغيرات العلمية المستجدة على مرّ الاحقاب والازمان، من دون ان يمس ذلك ثوابت العقيدة اي الاسس والقيم الكبرى الخلقية والفلسفية والسياسية والاجتماعية والانسانية التي تقوم عليها العقيدة. وهنا لزم التفريق بين (الثابت) و(المتغير) فهذا هو لب الموضوع، الثابت في الدين اي (جوهره) الاساسي، والمتغير في حركة العلم والفكر والثقافة، وما يفرزه من (تفصيلات) و(اضافات) متجددة يجب الاخذ بها عند تشكيل عقلية الامة، بما لايتعارض والجوهر الثابت. ذلك ان الاسلام لايمكن ان يقف عند عصر واحد هو عهد النبوة او يكتفي بمعطيات حضارية تختلف عن يومنا، وانما هو (الانفتاح) الدائم على التنويع الذي لايصدم الجوهر الثابت، مادام الاسلام هو دين اليسر بحيث يصلح لشتى الازمان. تلك هي المسألة. وذلك هو سبب المعركة التي افتعلها ضدي رجال متزمتون عندما تكلمت في الاحاديث الاربعة في الدين عن طريق العلم والعقل، داعيا لنماء ملكة العقل من التفكير ولقد فهمني هؤلاء خطأ، اذ فسروا آرائي على غير حقيقتها، فذكروا اني اعتبر ان العلم اصبح في عصرنا هو الطريق الاصلح الى الايمان بالله وان العلماء هم الذين يأخذون بيدنا الى الله تعالى، فكيف يستخرجون هذا التفسير، مع ان موقفي من الحقيقة العقلية، والحقيقة الدينية معروف وهو قديم وثابت لم يتغير؟ الم اكتب بالنص: اما حقيقة الخالق، فأمر بعيد عن مقدرة العقل، وهل يستطيع الجزء ان يرى الكل؟. هل تستطيع الكبد في جسم الانسان مثلا ان تحيط ادراكا بحقيقة شكل الانسان الخارجي، وهي جزء منه داخل فيه؟.. فالحقيقة العقلية او العلمية لايتجاوز علمها الكائنات التي تمر بالحواس، ومن يحمل العقل اكثر من قدرته فهو انما يريد منه المستحيل، كمن يطلب الى الكبد مضغ الطعام.. (تحت شمس الفكر) وكتبت ايضا: لا سبيل الى الدنو من الذات الازلية،، الا عن طريق يقصر عنه العلم الانساني، بل يقصر عنه كل علم، لان العلم معناه الاحاطة والذات الابدية لايمكن ان يحيط بها محيط، لانها غير متناهية الوجود فالاتصال بها عن طريق العلم المحدود مستحيل! وهكذا، لم يزل موضوع الاحاديث الاربعة في حاجة الى كلام واخشى ان يتبادر الى الذهن انني افتعل ايضا (تجديد الجدل) او نحو ذلك فليس هذا ما ارمي اليه وانما اصبو الى ان الفت نظر الجيل الجدديد الى ان يأخذ الاسلام دوما على انه دين اليسر وانه يبسط جناحيه على مستجدات الفصول والعصور، وليس ادل على ذلك من قول النبي (ص) انتم ادرى بشؤون دنياكم فلقد جاءه قوم يسألونه عن افضل وسيلة لـ(تذكير النخل) فاقترح عليهم طريقة معينة، فجربوها، فلم تنجح ففاتحوه بالامر، فقال لهم ذلك القول مقترحا عليهم، ان يجربوا وسيلة اخرى.. انتم ادرى بشؤون دنياكم، قالها النبي (ص) وحبذا لو يأخذ رجال الدين المتزمتون اليوم بهذا الرأي و يكتشفون ان الدنيا تتغير باستمرار وان الاسلام يتكيف بسهولة مع التطور بما لايتعارض والجوهر الثابت اي القيم الاساسية الكبرى فالاسلام عينه يسمح بهذا التكيف الذي لايناقض ولايشوه ولايتدخل في معطيات عصر النبوة كأساس ثابت يمكن ان ندخل عليه اضافات جديدة لاتخل بهذا الاساس الراسخ، وكم كان بودي ان اعرض لامثلة ووقائع كثيرة، لكن المقام يضيق دون ذلك، واني احيل القارئ الى كتاب (الاحاديث الاربعة) والقضايا الدينية التي اثارتها ففيه احاديث عديدة في هذا الاتجاه واني لاكتفي هنا بمثالين الاول يخص الامام الشافعي فقد كان قد اصدر فتاوى في الشام ولما عاد الى مصر، غير من هذه الفتاوى وعدل بها اذ وجد ان المجتمع المصري قد يقتضي هذا التعديل وما احوجنا اليوم الى علماء لديهم جرأة الشافعي واتساع افقه. اما المثال الثاني، فيتعلق بالشيخ محمد عبده، فبعد الثورة العرابية، قررت جهات اجنبية بريطانية افتتاح مصارف في مصر وسألت في بداية الامر الحكومة عن حكم الاسلام في موضوع الفائدة، فاحالت الحكومة المسألة الى المفتي الشيخ محمد عبده، ولقد درس مسألة الفائدة والربا من شتى جوانبها، ثم اصدر فتواه الشهيرة اذ اعتبر ان من يضع اموالا في مصرف، ويتقاضى عنها (فائدة) فان هذه الفائدة هي في الواقع اجر وليست ربا، اجر يمثل استثمارا للمبلغ المودع في البنك وفسر الشيخ عبده فتواه بالقول ان المصارف تستمثر الاموال المودعة لديها في التجارة والصناعة وفي المشاريع وعندما تدفع فائدة على هذه المبالغ، فان الفائدة هنا هي جزء من الارباح التي حققها الاستثمار وليست ربا، ثم استثنى عبده (الفائدة المرتفعة) التي تتخطى حدود الربح الناتج عن الاستثمار واعتبرها ربا فاحشا. لقد كان م
خريف العمر
نشر في: 21 نوفمبر, 2009: 02:28 م