جعفر الخليلي ربما كنت ابن عشر سنوات او اكثر قليلا حين سمعت اخي يقول لامي ان لديه ضيفا سيتناول عشاءه عندنا ويغلب على ظني انه قد سمى ضيفه هذا ولكني لا اتذكر انني كنت مسبوقا حينذاك بهذا الاسم وكل ماعرفت هو ان اخي يريد العناية بضيفه لان ضيفه شاعر معروف،
والعناية عندنا لم تزد حينذاك على صنفين من الطعام اذا اجهدنا انفسنا، فنحن اذا لم نكن من الفقراء فلم نكن من الاغنياء وكثيرا ما كان اخي يدعو اصدقاءه في بيتنا او في المدرسة التي يقيم بها فاتعرف عن هذه الطريقة باصدقائه. وجاء الضيف فاذا به شيخ نحيف البدن خفيف اللحية يحتذي حذاء اصفر اللون ودون (جوارب) كما كان عليه اغلبنا يومذاك ويلبس جبة بلون أدكن وعباءة سوداء، وهو لباس طلاب الدين، والعلم، وعلى رأسه عمامة بيضاء. هذا هو الشاعر المدعو الى العشاء عندنا، قلت هذا في نفسي واحسست بهيبته وعظمته تملأ ذهني وبصري ومن عادة البيوت التي لاتملك مستخدمين يقومون بخدمتها ان تنيط خدمة البيت بابنائها الصغار على قدر مايملك هؤلاء الصغار من طاعة، وكان بيتنا دون اغلب بيوت اسرتنا من البيوت التي يتعذر عليها استخدام احد ولما كنت اصغر افراد هذا البيت تحتم علي ان اقوم بكل حاجات البيت فانا الذي انقل كل اللوازم الى (البراني) والبراني هذا كما يصطلح عليه النجفيون هو غرفة الاستقبال وكثيرا مايكون هذا البراني في الطابق الثاني يصعد اليه الصاعدون من سلالم تبدأ عند باب الدار ليكون بمعزل عن الحرم الذي يسمى (بالدخلاني) وفي الغالب يكون هذا البراني مطلا على الشارع العام وخارجا من سوية جدار الدار من الاعلى بما يقرب من متر واحد وكانت تسمى مثل هذه الغرف (بالشناشيل). وهكذا بدأت انقل الابريق لغسل اليدين ثم الصينية ثم اواني الطعام آنية بعد آنية وانا احافظ عليهما محافظتي على روحي وكنت كلما صعدت بشيء من الاشياء الى البراني حدقت الى وجه هذا الشاعر وامعنت النظر في شخصه ولم اكن افهم ماكان يقوله وينطق به ولكن بيئتي ونشأتي كانت تجعل للشعر منزلة كبيرة في نفسي على الرغم من ان معرفتي بالشعر وحدوده لم تزد على معرفة صبي في مثل هذه السن. وكنت انا طالبا في المدرسة العلوية، وهي اول مدرسة عصرية حديثة أنشئت لتدريس العلوم العصرية واللغات الحية، وكان العلماء الروحانيون يحدبون عليها ويساعدونه ويجوزون انفاق الحقوق الشرعية عليها، وكان من عادة هذه المدرسة ان تدعو رهطا من وجوه اهل العلم والادب لحضور امتحاناتها السنوية، وقد رأيت ذات يوم هذا الضيف الشاعر وانا اؤدي امتحاني الشفهي امام احدى الخرائط وقد عرفته، واغلب الظن انه لم يعرفني. ثم رأيت هذا الشاعر نفسه بعد مدة ومعه السيد مير علي (ابو طبيخ) في ظهر احد الايام في غرفة اخي بمدرستنا الدينية المعروفة بمدرسة الخليلي الكبرى، وقد جئت اليها من البيت بناء على وصية من اخي ببعض الارغفة من الخبز ومقدار من التمر وكان اخي قد اصطاد عددا من الحمام المعروف بحمام الحضرة والذي كان اكله محضورا لقداسته او انه كان محرما في شريعة العوام فلم يستطع احد ان يتجاهر بأكله وقد تم طبخ هذا الحمام في نفس غرفة اخي في المدرسة وتم اكله في خفية من العيون، ويغلب عليّ ظني اني قد بدأت اعرف ان هذا الشاعر هو الشيخ محمد رضا الشبيبي ويغلب على ظني اني كنت قد عرفت الشيخ جواد الشبيبي مما كنت اسمع في بيوتنا قبل ان اعرف الشيخ محمد رضا الشبيبي معرفة كافية فقد كانت تربط بين الشيخ جواد الشبيبي والد الشيخ محمد رضا وبين اسرتي روابط جد وثيقة وكان للكثير من افراد اسرتي دواوين تجمع بين اهل العلم والفضل والادب فكان اسم الشبيبي الوالد يملأ هذه الدواوين كما يملأ دواوين النجف الاخرى وكان لابي بصورة خاصة اتصال ادبي وثيق بالشيخ جواد الشبيبي فكوّن كل هذا في نفسي معرفة اوسع بالشيخ محمد رضا الشبيبي يوم تم لي ان اعرفه معرفة تتناسب ومداركي واحاسيسي المحدودة.. وتدعوني مناسبة (حمام الحضرة) الى ان اذكر ايام الحرب العظمى الاولى فقد كانت اياما مجدبة قاحلة ولايبعد ان يكون قد ظهر نقص كبير في عدد الحمام لا بسبب الجدب والقحط وجوع الحمام وانما بسبب كثرة صيده، كما ظهر هذا النقص في ضرب الحصار على النجف من قبل الانكليز في سنة 1336 هجرية التي اضطر فيها السكان إلى ان يصطادوا الحمام ويأكلوه خفية عن الناس واني اعرف رجلا من اهل الفضل والوجاهة كانت له في بيته غرفتان تتصل احداهما بالاخرى بواسطة باب فكان يفتح باب إحدى الغرفتين بعد ان يضع فيها شيئا من الحبوب فاذا مادخل الحمام هذه الغرفة اسرع الرجل فأغلق الباب عليه ثم فتح الباب الثاني من وسط الغرفة الثانية ليدخل الطير فيها فيحتفظ به ويذبحه في ذلك اليوم او في الايام التي تليه وبذلك كان يستغني عن شراء اللحوم ويسد الحاجة التي لم يكن يقوى على سدها بغير هذه الطريقة وقد اعتاد هذا الرجل مثل هذا العمل منذ ايام الحرب الاولى وبقي يمارسه حتى مات مع ان احواله قد تحسنت وقد اصبح من اهل الثراء وانا نفسي قد اكلت من هذه الطيور وقد بلغني ان شيخ الشريعة المرجع الروحاني الاعلى في الثورة العراقية الكبرى بعد الميرزا الشيرازي كان لايكترث بالسواد والعوام وكان لايتخفى في اكله الحمام وكثيرا مادعاني ابنه الشيخ محمد الشري
كيف عرفت الشيخ محمد رضا الشبيبي؟
نشر في: 25 نوفمبر, 2009: 04:16 م