علي عبد الامير محمد الروح أساس كينونة الإنسان المجهولة وذاكرة مشفرة لتاريخ السيرة الذاتية كُتِبَ في هوامات غير معلومة وفي معظمها غير مدرَكة مكبِلة العقل مدخلها نحو الفهم بحيرة الاختيار مابين الركون متعلقا بالأمل او بدونه لواقع غير مفهوم غالبا أو التيه في شطحات فضائها اللا محدود برؤىًً مجتزأة من دون ترتيب لكنها ساطعة الوضوح .
فبجزئية سايكولوجية ذات اصل فلسفي مُستمد من ارث ديني ظاهرة (شوهِدَ من قبل) حيث يشتبك فيها الوهم بالحقيقة على أساس قدري يتجمع الشخوص فيه بتعلق روحي وفق تواريخ مستنسخة بذاتها ،يقدم الشاب عمرو سلامة فيلمه زي النهارده ،موظفاً نفسه بثقة زائدة كاتبا للسيناريو ومونتيراً ومخرجاً في تجربته السينمائية الاولى . منذ الدقيقة الأولى لخمس وتسعين تالية ستجد انك أمام فيلم مصري يتخطى نمطية السائد السمجة سواءً بالثيمة او التكوين التقني والفني في صورة بَهُتت ألوانها الزاهية متراجعة أمام تدريجات الأزرق والرمادي والأسود تضعك (بقصدية واضحة) في عالم شبيه بالحلم يتحرك على حافة الواقع ،تنطلق فيه مي (بسمة) بالجري مسرعة وسط زحام المدينة وشوارعها المكتظة لتدخل شقة مفتوحة الباب يظهر فيها محمد (اسر ياسين) موجها مسدسه نحو ياسر (احمد الفيشاوي) دون ان تتوقف عن الجري ،مشهد يقطعه المخرج سلامه دون ختام مثيرا فيك التساؤل الذي لن تجد جوابه الا في النهاية ،حينها ينبعث صوت مي راوياً الحكاية من بدايتها وبتواريخ محددة انطلاقا من مذكراتها التي تدونها كل يوم ،التعارف بينها وبين أيمن (نبيل عيسى) ،الموعد الأول ،يوم الخطوبة ،صدمة موته الذي تسبب فيه السلوك العدائي لأخيها المدمن محمد ،هذه الأحداث ستتشكل بتطابق مستَفز لمي في علاقتها التالية مع ياسر والتي تمثل أساس الحبكة الدرامية للفيلم والمجرى الرئيس الذي انتهت إليه في الختام كل المسارات المتفرعة مثل حال محمد مع عائلته أو تأثير انهيار علاقته -نتيجة إدمان المخدرات –مع صديقته (آروى جودة) التي تموت على يديه وإيغاله في القتل لأكثر من مرة ،البحث الدائب لمي عن الوسائل التي قد تساعدها في حماية حبها وعلاقتها المستقبلية بياسر ،كل هذه المثابات للقصة شكلت حركية الزمن فيها ركنا محوريا بانسيابية مقيدة في تواريخ بعينها أفتعلها السيناريست ،حتى أضحى مشهد الذروة لمي وهي تتلقى الرصاصة بدلاً من ياسر –استكمالاً للمشاهد الافتتاحية- وتوقيت وصولها وموتها متوالية غير منتهية لان ياسر سيبدأ العيش بالأحداث نفسها كما نفهم بآخر مشاهد الفيلم ،ما هو ألا تعبير عن المغالاة في الغرائبية التي أُغرق بها ،كما أن الأجواء والخلفية المجتمعية التي يتحرك بوسطها أبطال زي النهارده تشكل صورة غريبة عن المجتمع المصري او عموم المجتمعات العربية فهي اقرب أن لم تتطابق مع البيئة الغربية ،من هذه التفاصيل وغيرها ستلاحظ التقارب الكبير بينه وبين الفيلم الأمريكي (الهاجس) لساندرا بلوك . لقد حاول عمرو سلامة صناعة فيلم يحتوي على الخلطة السحرية الأمريكية تشويقاً وغموضاً ،حباً ولوعة ،شيئاً من الاكشن وأكثر من الدماء ،وبالطبع لم ينس إضافة رشة خفيفة من الكوميديا لتقليل جدية الأحداث وسوداويتها ،من الممكن أن يكون ذلك مقبولا لصناعة هوليوودية لانطلاقه من رؤية محلية مهما بلغت درجة المبالغة فيه ،لكنه حتما لن يستساغ مادام التناول مصريا أن لم تؤخذ أهمية استناد القصة إلى مرجعية اجتماعية متعارف عليها ومقبولة من المشاهد وغير غريبة عنه ،مضافا إلى أن عناصر التوليفة للفيلم أن لم تكن بقياسات متوازنة جاءت نتائجها في المجمل مثل جرعة زائدة ستضر بالشكل الجمالي للصورة العامة أكثر من فائدتها لجانب المتعة والتشويق ،لكن ذلك لا يقلل كثيرا من الاجتهاد الكبير لعمرو سلامة خصوصا في المونتاج وإدارة الإخراج مظهرا إمكانيات عالية المستوى لموهبة حقيقية ستقدم الكثير مستقبلا إذا ما تقدمت بخطوات صحيحة ،فيما كانت الفنانة بسمة متألقة بأدائها إلى حد كبير خصوصا وان الشخصية تتعرض طول مسار الفيلم لانتقالات مفاجئة وحادة بين المشاعر والأحاسيس المختلفة ,ولم تكن شخصية المدمن الا تأكيدا لموهبة آسر ياسين المتفجرة دورا بعد آخر ،بينما جاء أداء احمد الفيشاوي متكلفا وبطيئا بإيقاعه في تقمص غير متناسب مع إبعاد الشخصية وملامحها فلم يبُح بالكثير من أسرارها وهو أمر غريب إذا ما قارناه مع تمثيل نبيل عيسى المقنع إلى حد ما رغم حداثة تجاربه وقلة خبرته - بالأصل موديل إعلانات-. أهم ما ميز فيلم زي النهارده احتفاظه بإيقاع متوازن يظل باجتهاد واعٍ لما يريد محتفظا بالمشاهد دون ملل متواصلا في استثارة تساؤلاته حتى آخر مشهد كاشفا مع موت مي أن صوتها الراوي لن يكون حتما نابعا من الواقع قدر تردده صدى لروحها الهائمة في عالم آخر (الرؤيا) ،مادامت النفس سراً كبيراً يستعصى على الفهم في دنيا اليقظة.
شوهِـدَ مــن قبـل.. فيلــم زي الـنـهــارده
نشر في: 2 ديسمبر, 2009: 04:36 م