عبدالجبار عباسكانت (تلك الرائحة) رواية صنع الله ابراهيم القصيرة، مفتتح مرحلة جديدة في تناول الرواية العربية المعاصرة لازمة المنتمي، اذ لم تعد هذه الازمة خطا هامشيا او اساسيا في لوحة متسعة يتولى الكاتب رصده متعاطفا او مؤرخا..
ولم تعد قضية فكرية يكشف عنها التحليل والحوار لقد تولى المنتمي ذاته كتابة تجربته الخاصة العامة من نقطة ربما كانت نهاية او بدءا جديدا. اغنى المعايشة الشخصية المباشرة، اكتشاف التجربة ومراجتها من الداخل، هو الملمح الاساس في هذه المرحلة التي تنتمي لها رواية عبدالرحمن منيف (شرق المتوسط) بثقة نابعة من امتلاك الكاتب لاطراف موضوعه ومعرفته الدقيقة بتفاصيله المعاشة بحرارة وصدق.. من زاوية القرف والتعب والاستمرار في مسيرة الواجب يستعيد رجب، بطل الرواية، الرغبة، وحتى الذكريات.. اما الافكار التي تعبر رأسه في الليل فانهم يريدونها ان تتحول الى كلمات، الى اسماء ومقابل ذلك يمنحون الانسان الضرب والالم وحنينا موجعا للنهاية والموت لاتقرره الارادة، ولكن الجسد وحده هو الذي يطلبه، لقاد اراد رجب ان يجعل حياة الناس بالكلمة والفكرة اكثر سعادة فكان جزاؤه ان تكون انسانيته مسرحا داميا لشهوة القتل في نفوس قتلة جبناء لاينطفئ عطشهم الحيواني الى التلذذ برؤية الانسان يموت ارادة وروحا وفكرا.. وفي جحيم التجربة الصعبة يرى رجب كل شيء ويشحن ذاكرته باشياء نامت معه وقامت خلال سنين وبكلمات شديدة التوهج، لكنه حين يغادر سرداب الموت جسدا لم يبق بينه وبين الموت سوى انتفاضة غضب او حب او فرح، يكتشف ان (اليد الملوثة، القلب الملوث، لا يستطيع ان يكتب ص 173) انه يشعر بالانطفاء الكامل، فكل ما مر يتراءى له وكانه كابوس لايرحم (ص 170) ومع ذلك فقد استطاع عبدالرحمن منيف ان يرمم ارادة انسان يحس انه لم تعد تربطه بالحياة رابطة، فقدم عبر روايته اعترافا وشهادة.. لذا لاينبغي ان نطلب ان تكون (شرق المتوسط) رؤية شاملة مستفيضة وعميقة لاطراف القضية فتمنح جوانب الصورة اهتمامات متكافئة تتضافر على بناء واقع فني اكثر اتساعا وتكاملا، ان ذلك مالم يستهدفه الكاتب ومالا يستطيعه رجب، بطله المنتمي الجريح الهارب باحزانه وذكرياته وغضبه وامراضه الى اوروبا، اذ ليس مطلوبا كتابة قصة، ان الاحداث التي رأيتها بأي طريقة سجلت تكفي لان تكون شهادة ادانة بالموت على هؤلاء القتلة يجب ابعاد كل الكلمات المبتذلة والاتهامات، ولاكتف بما رأته عيناي.. لو تمت اكون قد اديت جزءا من واجب ومن اجل هذا كانت تجربة رجب ورفاقه وعائلته مع الجلادين القتلة مادة طرية نابضة لعمل هو اقرب الوان الرواية الى السيرة وادب الرسائل وادب الاعتراف (علينا ان نتبع البساطة ونعترف، الاعتراف بالكلمات العادية الصغيرة ص 162) لقد قتلت فنون التعذيب فن الشعر، ذلك السيل من الاحاسيس الداخلية في لحظات هاربة اذ لم يستطع الانسان السيطرة عليها توارت وانتهت،، ولما كانت عائلة رجب ضحية للارهاب بعد ان جاهدته بكل سبيل فان من حجق رجب ان يحلم بكتابة رواية يكتبها افراد العائلة. رواية يكتبها اكثر من واحد، وفيها اكثر من مستوى وان تتحدث عن امور مهمة والافضل مزعجة.. عرفها رجب وامه واخته سنية وزوجها حامد وطفلهما عادل، واسهمت فيها حبيبة رجب هدى ورفاقه وجلادوه وصديقه الدكتور فالي الذي عاش مع وحشية الاحتلال النازي تجربة مشابهة فقد فيها عائلته وكسب حكمة وصلابة النضال.فلئن كانت تجربة رجب موضوع العمل وخطه الاساس، فقد حرص المؤلف على ان تكون معاناة الام التي قتلها الارهاب، ورؤية الاخت المسهمة في صياغة وتوير الحدث المركزي خطين اخرين يتضافران على تشكيل التجربة ومدها بنسغ دافئ من نكهة عائلية اليفة تمتد جذورها الى طفولة رجب، ونبرة غنائية حزينة لاتفارق العمل في اي من مراحله. ان نزوع رجب الى الاعتراف وتكريس عمله للشهادة جعلاه في غنى عن الحاجة الملحة الى القواعد وما يتفرع عنها من وجود امكانية او خبرة سابقة ولكن ذلك لم ينته بعمله الى (شكل جديد) او طريقة جديدة في الكتابة كان يطمح اليها، لان تعب الروح والجسد كان قد جز جنح الخيال الروائي التركيبي.. فاضاع على العمل فرصة الانتماء الى الروايات العربية الجددية التي عمدت الى رؤسة التجربة الواجدة بعيون ابطالها، اذ يستعيدون كل من زايته، ريتها وروايتها، والتي اتخذت في الغالب شكل الرباعية (بميرامار، الظلال في الجانب الاخر، الرجل الذي فقد ظله، رجال في الشمس، السفينة) وضيق من دائرة الواقع الذي اراد رجب ان يجعله بالكلمة اكثر سعادة.. لقد وقف عبدالرحمن منيف وراء رجب وشقيقته انيسة التي لابد ان تناظره ثقافة وقدرة على الرصد والاستبطان ووزع التجربة بينهما مستيعدا الماضي او ممتدا في الحاضر، فاتسم عمله بالبساطة المتجانسة، وضم السياق الهادئ الجذاب (امتدادات كثيرة ومتباينة: الذكرى، الاحاسيس، العلاقات ص 162).. وبدلا من (الزوايا المختلفة الضرورية لكي نرى الشيء من جميع جوانبه) توزعت الرؤية بين زاويتين اساسيتين: (رجب) و(انيسة) التي كانت بعد سفر رجب اقدر على تصورها من الداخل والخارج معا.. ان عجز رجب عن ان يكتب كل شيء بعد ان ادرك ان عذاب الكلمة اقسى من ان يتحمله انسان
شرق المتوسط.. النكهة والشهادة
نشر في: 4 ديسمبر, 2009: 06:18 م